أزمة الصواريخ الكوبية

أزمة الصواريخ الكوبية تعتبر واحدة من اللحظات المصيرية التى مرت على تاريخ الأرض و حبس فيها سكان العالم أنفاسهم على مدار 13 يوما و هم يشاهدون ملامح حرب عالمية ثالثة تلوح فى الأفق و تلك المرة بين حلفاء الأمس الذين أصبحوا أعداء اليوم و هم الولايات المتحدة الأمريكية و الإتحاد السوفيتى فقد كان شهر أكتوبر عام 1962 واحدا من أكثر الأوقات خطورة فى حقبة الحرب الباردة كلها و التى أقترب فيها الطرفين من فرص إستخدام الأسلحة النووية التى كانت كافية لإبادة كافة أشكال الحياة على الأرض و ذلك بعد أن أصبح الصدام الوشيك مباشرا بين البلدين نتيجة حسابات خاطئة و سوء تقدير من كلا الجانبين إضافة الى سوء التواصل و التفاهم بينهم خلال الإتصالات الديبلوماسية و عبر القنوات السرية إلى أن تم نزع فتيل الأزمة بعد تصحيح جميع تلك الأخطاء فى الوقت المناسب و تقديم كلا الطرفين تنزلات الى الأخر قبل أن تتداعى الأزمة و يصبح من الصعب السيطرة عليها لاحقا .

فبعد محاولة “الولايات المتحدة” الفاشلة للإطاحة بنظام الزعيم الثوري اليساري ” فيدل كاسترو” في “كوبا” خلال عملية غزو خليج الخنازير و بينما كانت تخطط إدارة الرئيس “ جون كينيدي ” لعملية “النمس” توصل رئيس الوزراء السوفيتي “نيكيتا خروتشوف” في يوليو عام 1962 إلى اتفاق سري مع رئيس الوزراء الكوبي “فيدل كاسترو” يكون بمقتضاه وضع صواريخ نووية سوفيتية على الأرضى الكوبية لردع أي محاولة غزو أمريكية مستقبلية و تم البدأ بالفعل فى بناء العديد من مواقع الصواريخ في أواخر الصيف لكن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية اكتشفت أدلة تشير الى تكديس أسلحة سوفييتية عامة في “كوبا” بما في ذلك قاذفات القنابل السوفييتية IL-28 و ذلك من خلال تحليق رحلات المراقبة الروتينية و في 4 من سبتمبر عام 1962 أصدر الرئيس “كينيدي” مذكرة تحذير عام من إدخال أسلحة هجومية إلى “كوبا و على الرغم من التحذير و في 14 من أكتوبر التقطت طائرة تجسس أمريكية من طراز “U-2” بقيادة الرائد “ريتشارد هيزر” عدة صور تظهر بوضوح مواقع صواريخ نووية باليستية متوسطة المدى قيد الإنشاء في “كوبا” مع طائرة سوفيتية من طراز SS-4 و بعد أن تمت معالجة هذه الصور و تقديمها إلى صناع القرار فى البيت الأبيض بدأت فعليا أزمة الصواريخ الكوبية نظرا الى أن تلك الصواريخ المسلحة نوويًا كانت مثبتة بالقرب من البر الرئيسي للولايات المتحدة على بعد 90 ميلاً جنوب ولاية “فلوريدا” و من نقطة الإطلاق تلك كان للسوفييت أفضلية فى الوصول بسرعة إلى أهداف في شرق “الولايات المتحدة” إذا تم السماح لتلك الصواريخ بأن تصبح جاهزة للعمل و هو أمر سيغير بشكل جذري موازين التنافس النووي بين “الولايات المتحدة” و ” الاتحاد السوفيتى – روسيا حاليا ” التي كانت فيها الأفضلية للأمريكيين و على الجانب الأخر كان الزعيم السوفيتي “نيكيتا خروتشوف” يراهن على إرسال تلك الصواريخ إلى “كوبا” بهدف محدد يتمثل في زيادة قدرة بلاده على توجيه الضربات النووية نظرا الى شعور السوفييت الدائم بعدم الارتياح بشأن عدد الأسلحة النووية التي كانت تستهدفهم من مواقع في أوروبا الغربية و “تركيا” و رأوا أن نشر تلك الصواريخ في “كوبا” هو أسهل وسيلة لتحقيق تكافؤ الفرص .

أحد الصور الملتقطة لطائرة التجسس الأمريكية للمواقع السوفيتية فى كوبا

و أستدعى الرئيس “كينيدي” أقرب مستشاريه و المسؤولين المعروفين باسم اللجنة التنفيذية أو ” الأكس كوم ” للنظر إلى الخيارات المتاحة و توجيه مسار عمل “الولايات المتحدة” و الذى من شأنه حل الأزمة حيث حدث جدال بينهم بعد أن رأى بعض المستشارين بمن فيهم جميع رؤساء الأركان المشتركة ضرورة شن ضربات جوية لتدمير قواعد الصواريخ يليها غزو أمريكي شامل لكوبا بينما فضل آخرون توجيه تحذيرات صارمة لكلا من “كوبا” و “الاتحاد السوفيتي” و أنتهت الإجتماعات بوصول الرئيس الى حل وسط و في 22 من أكتوبر أمر بفرض عزل بحرى على ” كوبا ” حيث تم التشديد على استخدام كلمة “عزل ” بدلا من “الحصار” لأعتبارات هامة منها أن كلمة ” حصار ” تستخدم عادة فى ” الولايات المتحدة ” اذا كانت فى حالة حرب اضافة الى أنها سوف تساعدهم فى تلقى الدعم الكامل من منظمة الدول الأمريكية و في نفس اليوم أرسل “كينيدي” رسالة إلى “خروتشوف” يعلن فيها أن “الولايات المتحدة” لن تسمح بتسليم أسلحة هجومية إلى “كوبا” و طالب السوفييت بتفكيك قواعد الصواريخ التي كانت قيد الإنشاء بالفعل أو اكتملت و إعادة جميع الأسلحة الهجومية إلى “الاتحاد السوفيتي” و كانت هذه هى الرسالة الأولى في سلسلة من الاتصالات المباشرة و غير المباشرة بين البيت الأبيض و الكرملين طوال الفترة المتبقية من الأزمة .

الرئيس الأمريكى جون كينيدى برفقة رئيس الوزراء السوفيتى نيكيتا خوروتشوف

و ذهب الرئيس ” كينيدى ” للظهور على شاشة التلفزيون الوطني في ذلك المساء لإبلاغ الجمهور بالتطورات في “كوبا” و بحقيقة وجود تلك المنصات و الصواريخ و قراره بالشروع في فرض عزل عليها و استخدام القوة العسكرية إذا لزم الأمر لتحييد هذا التهديد المتصور للأمن القومي مع شرح العواقب العالمية المحتملة إذا استمرت الأزمة في التصعيد و كانت لهجة و ملاحظات الرئيس صارمة و رسالته واضحه بأن سياسة تلك الأمة هو أن أى صاروخ نووى يتم إطلاقه من “كوبا” ضد أي دولة في نصف الكرة الغربي هو بمثابة هجوم من جانب “الاتحاد السوفيتي” و هو الأمر الذي يتطلب ردًا انتقاميًا كاملاً على ذلك الهجوم كما أعلنت هيئة الأركان المشتركة رفع حالة الاستعداد العسكري لديفكون 3 “DEFCON 3” و بدأت القوات البحرية الأمريكية في تنفيذ العزل و تسريع الخطط لتوجيه ضربة عسكرية إلى “كوبا” .

خلية أزمة الصواريخ الكوبية

و فى 24 من أكتوبر رد “خروتشوف” على رسالة “كينيدي” ببيان أن الحصار الأمريكي يعتبر عملًا عدوانيًا و أن السفن السوفيتية المتجهة إلى “كوبا” سيُطلب منها المضي قدمًا و مع ذلك خلال ذلك اليوم وصلت الأزمة الى ذروتها عندما اقتربت السفن السوفيتية المتجهة إلى “كوبا” من خط السفن الأمريكية التي تفرض الحصار حيث كان من المحتمل أن تؤدي محاولة السوفييت لخرق الحصار إلى مواجهة عسكرية بين الطرفين كان من الممكن أن تتصاعد بسرعة إلى حرب نووية لكن بعض من السفن السوفيتية تراجعت و عادت من خط العزل و تم إيقاف الآخرين من قبل القوات البحرية الأمريكية لكنهم لم يكن لديهم أى أسلحة هجومية و بالتالي سُمح لهم بالمضي قدمًا و في الوقت نفسه أشارت رحلات الاستطلاع الأمريكية فوق كوبا إلى أن مواقع الصواريخ السوفيتية كانت على وشك الاستعداد التشغيلي و مع عدم وجود نهاية واضحة للأزمة في الأفق تم رفع حالة القوات الأمريكية الى “ديفكون 2” مما يعني أن الحرب كانت وشيكة و في 26 من أكتوبر أخبر “كينيدي” مستشاريه أنه بدء فى الإقتناع بأن هجومًا أمريكيًا فقط على “كوبا” من شأنه أن يزيل خطر تلك الصواريخ لكنه أصر أيضا على منح القناة الدبلوماسية مزيدًا من الوقت حيث وصلت الأزمة إلى طريق مسدود فعلي و لكن بعد ظهر ذلك اليوم اتخذت الأزمة منعطفاً دراماتيكياً حين أبلغ مراسل قناة ABC News “جون سكالي” البيت الأبيض بأن هناك عميلًا سوفيتيًا قد اتصل به بشكل يشير إلى أنه يمكن التوصل إلى اتفاق يزيل السوفييت بموجبه صواريخهم من “كوبا” إذا وعدت “الولايات المتحدة” بعدم غزو الجزيرة و بينما سارع موظفو البيت الأبيض لتقييم صحة عرض تلك القناة السرية أرسل “خروتشوف” رسالة إلى “كينيدي” مساء 26 من أكتوبر و كانت عاطفية و طويلة أثار فيها شبح الهولوكوست النووي و قدم من خلالها مقترحًا يشبه بشكل ملحوظ ما ذكره “سكالي” في وقت سابق من ذلك اليوم حيث قال انه إذا لم تكن هناك نية لإلحاق العالم بكارثة الحرب النووية فدعنا نهدئ ليس لارخاء طرفى الحبل فقط و لكن لنتخذ إجراءات فك تلك العقدة و نحن مستعدون لذلك .

طائرة تابعة للبحرية الأمريكية تحلق فوق سفينة شحن سوفيتية أثناء أزمة الصواريخ الكوبية

و على الرغم من أن الخبراء الأمريكيين كانوا مقتنعين بأن رسالة “خروتشوف” كانت حقيقية إلا أن الأمل في التوصل إلى حل لم يدم طويلاً نظرا الى أنه في اليوم التالي 27 من أكتوبر أرسل “خروتشوف” رسالة أخرى تشير إلى أن أي صفقة مقترحة يجب أن تشمل إزالة صواريخ “جوبيتر” الأمريكية من “تركيا” و في نفس اليوم تم اسقاط طائرة استطلاع أمريكية من طراز U-2 فوق “كوبا” و مقتل قائدها ” رودولف أندرسون ” البالغ من العمر 35 عامًا و الذى كان الضحية القتالية الأمريكية الوحيدة في أزمة الصواريخ الكوبية و على اثر ذلك استعد “كينيدي” ومستشاريه لشن هجوم على “كوبا” في غضون أيام من خلال تجهيز قوة غزو أمريكية في “فلوريدا” مع استمرار بحثهم عن أي حل دبلوماسي متبقي و قرر أن يتجاهل رسالة “خروتشوف” الثانية و يستجيب للرسالة الأولى فقط و في تلك الليلة كتب “كينيدي” خطابا اليه و حدد في رسالته اقتراح خطوات لإزالة الصواريخ السوفيتية من “كوبا” بأن تكون تحت إشراف الأمم المتحدة مع اعطاء ضمانات على عدم مهاجمة “الولايات المتحدة” لكوبا و فى نفس الوقت التقى المدعي العام “روبرت كينيدي” سرًا بالسفير السوفيتي في “الولايات المتحدة” “أناتولي دوبرينين” و أشار إلى أن “الولايات المتحدة” كانت تخطط لإزالة صواريخ “جوبيتر” من “تركيا” على أي حال و أنها ستفعل ذلك قريبًا لكن هذا لا يمكن أن يكون جزءًا من أي حل عام فى أزمة الصواريخ الكوبية و في صباح اليوم التالي 28 من أكتوبر أصدر “خروتشوف” بيانًا عامًا مفاده أن الصواريخ السوفيتية سيتم تفكيكها وإزالتها من “كوبا” و انتهت الأزمة لكن العزل البحري الأمريكى على ” كوبا ” ظل مستمرا إلى أن وافق السوفييت على إزالة قاذفاتهم و في 20 من نوفمبر عام 1962 أنهت “الولايات المتحدة” الحصار البحرى و تمت إزالة صواريخ “جوبيتر” الأمريكية من “تركيا” في أبريل عام 1963 .

مدى الصواريخ السوفيتية الموجودة فى كوبا و التى شكلت تهديدا كبيرا للأراضى الأمريكية

و مع أنتهاء أزمة الصواريخ الكوبية كان لها بعض من التداعيات حيث ساهمت فى تعزيز صورة “كينيدي” محليًا و دوليًا و ربما قد تكون ساهمت أيضا في تخفيف الانتقادات التى تولدت لدى الرأى العام العالمى فيما يتعلق بغزو خليج الخنازير الفاشل كما صاحبها أيضا نتيجتان مهمتان أولها هى أنه على الرغم من كثرة الاتصالات المباشرة و غير المباشرة بين البيت الأبيض و الكرملين الا أن إدارة الرئيس “جون كينيدى” و رئيس الوزراء ” نيكيتا خروتشوف” قد كافحا طوال الأزمة لفهم النوايا الحقيقية لبعضهم البعض بوضوح بينما كان العالم معلقًا على شفا حرب نووية محتملة لذلك و في محاولة لمنع حدوث هذا الأمر مجددا تم إنشاء اتصال هاتفي مباشر بين البيت الأبيض و الكرملين و الذى أصبح يُعرف باسم “الخط الساخن” و ثانيًا و بعد أن اقترب الفريقين من شفا صراع نووي بدأت كلتا القوتين العظميين في إعادة النظر في سباق التسلح النووي و اتخذتا الخطوات الأولى للموافقة على معاهدة حظر التجارب النووية .

شارك الموضوع

عمرو عادل

فى الحياة الواقعيه مهندس ميكانيكا قوى اما فى الحياه الافتراضيه فباحث و كاتب و مدير الموقع دا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *