يعتمد مفهوم النجاح على طبيعة الإرادة التى تكون بداخل الإنسان حتى و إن كان من اصحاب الإعاقات لأنها فى بعض من الأحيان قد تكون هى السبب الرئيسي فى دفعه نحو التفوق و إثبات الذات و لعل من أبرز تلك الحالات هى قصة الفرنسي جان دومينيك بوبي الذى كان يوما كاتبا و صحفيا شهيرا ثم تبدل به الحال و أصبح طريحا للفراش و مصابا بالشلل إثر إصابته بسكتة دماغية و التى منعته من تحريك أى جزء من جسده سوى جفن عينه و رغم صعوبة الحياة بذلك الوضع الا أنه تمكن من قهر المستحيل و أستطاع كتابة كتاب شهير حمل عنوان جرس الغوص و الفراشة فقط بومضات عينه التى تم ترجمة حركاتها الى كلمات بمثابرة مثيرة للإعجاب لذلك ليس بالغريب أن ينال ذلك الكتاب نجاح كبير لدى القراء عند صدوره و يحصد العديد من الجوائز و تكون قصة ذلك الكاتب ملهمة للكثيرين مثله و تتحول الى عمل سينمائي يجسد تجربته و معاناته .
ولد ” جان دومينيك بوبي ” فى أبريل عام 1952 بمدينة ” باريس ” فى ” فرنسا ” و كان رجلاً مفعمًا بالحيوية و وسيمًا و جذابًا و يتمتع بمواهب عديدة و بدأ حياته المهنية فى الصحافة بجريدة ” كومبات ” و ” دايلى اوف باريس ” و فى سن 28 عاما تم ترقيته ليكون رئيس تحرير جريدة ” لو ماتان دي باريس ” اليومية ثم أصبح مديرا للقسم الثقافى فى مجلة ” بارى ماتش ” الشهيرة و بعدها انضم إلى هيئة تحرير مجلة Elle المعنية بالأزياء و الموضة و أصبح فيما بعد رئيس تحريرها اما بالنسبة الى حياته الخاصة فقد كان كان متزوجًا من “سيلفي دي لا روشفوكولد” و لديه طفلان و هم ” تيوفيل و سيليست” و كان يعيش معهم حياة مستقرة و سعيدة للغاية كما اشتهر خلال حياته بحبه للسيارات السريعة و المزاح و الأزياء الراقية و الأطعمة الفاخرة .
و رغم حياة ” جان دومينيك بوبي ” المثالية و التى يتمناها أى شخص الا ان كل ذلك قد تبدل في أحد أيام عام 1995 حين كان مع ابنه “تيوفيل” يستمتعان بالقيادة معًا و فجأة بدأ يشعر بضعف فى الرؤية و يفقد الوعى ليتم نقله على الفور إلى المستشفى حيث دخل في غيبوبة مكث بها قرابة ثلاثة أسابيع و عندما استيقظ أكتشف أنه أصيب بالشلل التام نتيجة لحالة نادرة تسمى “متلازمة الانغلاق” التي كانت ناجمة عن إصابته بسكتة دماغية و لكن على الرغم من أنه لم يكن قادرًا على تحريك جسده (باستثناء جفن عينه الأيسر) لكن عقله ظل يقظًا تمامًا و أصبح ” جان ” من تلك اللحظة فصاعدًا لم يعد قادرًا على الأكل أو البلع أو التنفس دون مساعدة خارجية و كان لا يزال يشعر بالألم خاصة فى يديه و من شدته أصبح لا يستطيع تمييزه عما اذا كانت ألم احتراق بشئ ساخن أو تجمد بشئ بارد و مع الوقت بدء فى فقدان وزنه و للأسف لم يكن تشخيص حالته مبشرا حيث كان الأطباء يأملون في بعض التحسن بعملية الهضم و التنفس أو ربما يصلون إلى نقطة مشجعة يستطيع فيها التنفس بما يكفي لجعل الحبال الصوتية تهتز و يستطيع الكلام .
و أصبح ” جان دومينيك بوبي ” لا يمتلك اى وسيلة للتواصل مع العالم و هو فى عمر 43 عاما فقط و لكن في أحد الأيام لاحظ صديقه “برنارد شابوي” (المحرر السابق لمجلة Men’s Vogue) ارتعاشًا في عين “جان” اليسرى و طلب منه أن يرمش إذا كان يستطيع أن يفهمه و قد فعل ذلك بالفعل سرعان ما تم إرساله من “باريس” إلى “بيرك” حيث بدأ العمل مع معالج نطق متخصص في “أبجدية الصمت” و الذى كان يناديه و يشير إلى الحروف و هى مرتبة حسب عدد مرات استخدامها في اللغة الفرنسية و أستطاع “جان” أن يصنع الكلمات و الجمل عن طريق وميض عينه عندما يصل إلى الحرف الذي يحتاجه حيث كان نظام التخاطب بسيط للغاية فهو يقرأ الحروف الأبجدية و عند الوصول الى حرف محدد يغمض عينه ليكون هو الحرف المقصود الذى يتم تدوينه .
و بعد تعلم أسلوب المخاطبة أصبح ” جان دومينيك بوبي ” غير مستعد للإستسلام و دفعه حماسه الى تأليف كتاب يتحدث حول معاناته فى أن يكون محاصرا داخل جسده و من خلال مساعدة من ممرضة متخصصة و هى “كلود منديبل” تمكن من إنهائه بعد عدة أشهر كانت فيهم الممرضة تمضى معه ثلاث ساعات يوميا طوال ستة أيام في الأسبوع تدون ما يقوله اعتمادا على الطريقة التى علمه بها معالج النطق و كان كل ليلة يعدل أفكاره في رأسه و يؤلف و يحفظ الجمل بحيث عندما تصل “منديبل” في الصباح يمكنه إملاء ما تم تجهيزه فى عقله حيث استغرق الأمر منه 200 ألف ومضة لإكماله و اختار له عنوان ” جرس الغوص و الفراشة ” و الذى يشير إلى جمود جسده من خلال وصف جسده بالجرس الثقيل الغاطس و الصعب الحركة بينما ترفرف الأفكار داخل عقله مثل خفة الفراشة .
أقرأ أيضا : كارل تانزلر الرجل الذى وقع فى حب مريضته ثم عاش مع جثتها بعد وفاتها
و لسوء حظ ” جان دومينيك بوبي ” أنه بعد يومين فقط من نشر كتابه فى مارس عام 1997 توفي بسبب التهاب الرئوي عن عمر يناهز 44 عاما و رحل عن دنيانا دون أدنى فكرة أنه كتب للتو أفضل الكتب مبيعًا على مستوى العالم و الذى فيه كتب كل شئ عن معاناته بأسلوب جذاب خلب لب القراء و أصبحت تجربته ملهمة للكثيرين و هو ما دفع المخرج ” جان جاك بينيكس ” الى اصدار فيلم وثائقى قصير فى عام وفاته تحت اسم ” مخصص للاقامه ” يحكى فيه قصته و كيفية تحديه للاعاقه كما تم تجسيد حياته فى فيلم سينمائي حمل نفس عنوان الكتاب و لاقى استحسان النقاد حيث حاز الفيلم على العديد من الجوائز والترشيحات منها جائزة أفضل مخرج في مهرجان كان السينمائي و جائزة جولدن جلوب لأفضل فيلم بلغة أجنبية و أفضل مخرج بالإضافة إلى 4 ترشيحات لجوائز الأوسكار .