السياسة و الإقتصاد لا يفترقان و فى بعض من الأحيان قد تتخذ قرارات سياسية لتحقيق أهداف إقتصادية و إذا نظرنا لدولة بحجم الولايات المتحدة سنجد أن العديد من الشركات هى من تتحكم فى سياساتها و تقوم بتمويل السياسيين للدفاع عن مصالحها فى الداخل أو الخارج لذلك نستطيع القول أن الإقتصاد هو أساس كل شئ و من فهم تلك اللعبة مبكرا هى عائلة روتشيلد التى يقول عنها البعض أنها كانت يوما مسئولة عن رسم السياسات العالمية و ربما حاليا أيضا نظرا لأنها سلالة مصرفية كانت في يوم من الأيام واحدة من أغنى العائلات في العالم التى قامت بإستثمارات مربحة في مشاريع البنية التحتية الكبرى بجميع أنحاء أوروبا مثل الجسور و الأنفاق و السكك الحديدية و لعل من أبرز مشاريعها الضخمة هى قناة السويس و منذ بداية إنشائها و حتى اللحظة كانوا روادًا في تطوير التمويل الدولي و لهم فروع في عدد من الدول أهمها المملكة المتحدة و فرنسا و النمسا و إيطاليا بالإضافة إلى موطنهم بمدينة فرانكفورت فى ألمانيا .
بدأ تأسيس عائلة روتشيلد علي يد “ماير أمشيل روتشيلد” (1744-1812) الذي نشأ في حي “جودينجاس ” في مدينة “فرانكفورت” و هو جيتو ضيق كان يعيش فيه سكان المدينة من اليهود البالغ عددهم 3000 نسمة و كانوا يواجهون عدد من المضايقات مثل عدم إمكانية مغادرتهم ليلا أيام الأحد و العطل المسيحية كما مُنعوا من زيارة الحدائق العامة أو المقاهي و عدم إمكانية المشي في الأماكن العامة في مجموعات تزيد عن اثنين و وسط تلك الأجواء تعلم “ماير” إدارة الأعمال في سن مبكرة و كان والده “أمشيل” يعمل في تجارة القماش و تبادل العملات القديمة و كانت إحدى أولى وظائف إبنه هي فرز العملات التي تم الحصول عليها من خلال المعارض التجارية نصف السنوية في “فرانكفورت” و التي كانت تجذب المشترين و البائعين من جميع أنحاء المنطقة و عندما بلغ الثانية عشر توفي والديه بسبب مرض الجدري ليعيش مع أقاربه الذين أرسلوه إلى “هانوفر” ليتدرب فى بيت بنكي يهودي بارز و هناك عمل “ماير” فى التجارة الخارجية و التمويل و تعرف على العملات النادرة التى ترجع إلي روما القديمة و بلاد فارس و الإمبراطورية البيزنطية حيث كان جامعو هذه القطع النقدية من الأمراء و غيرهم من أصحاب الثروات و كان يُطلق على اليهود الذين يتعاملون معهم إسم “يهود المحاكم” أي أنهم يتعاملون مع النبلاء .
و عندما بلغ ” ماير روتشيلد ” التاسعة عشرة من عمره عاد إلى “فرانكفورت” عام 1763 و أنضم إلى إخوانه في الأعمال التجارية التي بدأها والدهم و أصبح تاجرًا للعملات المعدنية النادرة و فاز برعاية ولي العهد الأمير “فيلهلم” من ولاية “هيسن” الذي كان يشتري العملات المعدنية من والده سابقا حيث كانت هذه علاقة تجارية مهمة لماير لأنه بسببها نمت أعماله لتشمل خدمات مالية أخرى كما ساعدته على تطوير العلاقات مع النبلاء الآخرين و في عام 1769 طلب ” ماير روتشيلد ” من الأمير “فيلهلم” أن يحصل على لقب “عامل المحكمة” أو “وكيل التاج” الذى يعنى أنه قدم خدمات للعائلة المالكة و سمح له بذلك و وضع درعًا فى منزله به شعار “هيسن” و في عام 1770 تزوج “ماير” من ” جوتلي شانبر ” إبنة صراف و عامل محكمة و أنجب الزوجين عشرة أطفال خمسة أبناء و خمسة بنات.
و نمت إمبراطورية “روتشيلد” المصرفية بسرعة خلال الثورة الفرنسية حيث قام “ماير روتشيلد” بدفع الأموال إلي “بريطانيا” لتوظيف جنود مرتزقة من ” هيسن ” و في أوائل القرن التاسع عشر أرسل أبناءه للعيش في خمسة مدن أوروبية و هى “نابولي” بإيطاليا و كانت من نصيب إبنه كارل و “فيينا” بالنمسا و عاش بها سالمون و “باريس” فى فرنسا من نصيب جيمس أما “لندن” بالمملكة المتحدة فكانت لناثان مع الإحتفاظ بإبنه الخامس أمشيل في “فرانكفورت” بألمانيا و مع إنتشار أبناء “ماير روتشيلد” في جميع أنحاء أوروبا أصبحت الفروع الخمسة مرتبطة معا و أنشأوا أول بنك يتجاوز الحدود و على مدار عدة قرون قدموا الإقراض للحكومات لتمويل العمليات الحربية حيث كانت كلمة الحروب بالنسبة لعائلة روتشيلد تعنى القروض للأمراء المتحاربين و ما هو ما ساعد فى إمتلاك تلك العائلة لسندات و أصول ساهمت فى بناء ثروة إضافية لها بالإضافة إلي الإستثمار فى عدد من الصناعات و كذلك التجارة المشروعة في المنتجات الرئيسية مثل القمح و القطن و الأسلحة و تكيفت عائلة روتشيلد بنجاح مع الثورة الصناعية و شاركت في النمو الاقتصادي بجميع أنحاء أوروبا من خلال استثماراتها في السكك الحديدية و الفحم و الحديد و الإستثمارات المعدنية و قبل وفاته ترك “ماير روتشيلد” تعليمات صارمة لورثته حول كيفية التعامل مع الشؤون المالية للأسرة حيث أراد الإحتفاظ بالثروة داخل العائلة و على هذا النحو حددت إرادته نظامًا صارمًا للوراثة الأبوي حيث لا يمكن أن تمر الملكية و الممتلكات إلا من خلال سلالة الذكور و تم إستبعاد الإناث من أي وراثة مباشرة و هو أمر شجع كثيرا الزواج بين أفراد العائلة و خلال الفترة ما بين عامي 1824 و 1877 كان هناك 36 زواجًا من أحفاد “ماير روتشيلد” الذكور من بينهم 30 متزوجًا من أفراد العائلة كما تزوجت أربعة نساء من “روتشيلد” و رجلين فقط من شركاء خارج نطاق العائلة .
و من بين أبناء روتشيلد الأربعة الذين تركوا مسقط رأسهم فى ” فرانكفورت ” حقق الابن الثالث “ناثان” (1777-1836) أكبر نجاح و هو الإبن الذى أنتقل إلى مدينة “مانشستر” فى “إنجلترا” عام 1798 لتأسيس شركة نسيج ثم أنتقل لاحقًا إلى “لندن” ليثبت نفسه كمصرفي و أنشأ مصرف “إن إم روتشيلد” عام 1810 و الذى لا يزال يعمل حتى اليوم و مثل بنوك روتشيلد الأخرى قدم المصرف إئتمانًا للحكومة البريطانية في أوقات الأزمات فخلال الحروب مع “نابليون بونابرت” مول المصرف المساعدات التي ترسلها الحكومة إلى الحلفاء كما أقرضهم أيضا بالأموال اللازمة لدفع رواتب القوات البريطانية بالإضافة إلي تمويل المجهود الحربي بمفردهم تقريبًا و في عام 1824 شارك “ناثان روتشيلد” و “موسيس مونتفيوري” في تأسيس شركة ” ضمان التحالف ” و التى لا تزال تعمل حتى اليوم هى الأخري و في عام 1835 حصل “ناثان” على حقوق التنقيب بمناجم الزئبق في “إسبانيا ” و أكتسب إحتكارًا عالميًا فعليًا لذلك العنصر الكيميائي و هو أمر بالغ الأهمية لتكرير الذهب و الفضة حيث ثبت لاحقا أن ذلك الإحتكار كان لا يقدر بثمن عام 1852 عندما بدأت العائلة في إستثمارات تكرير الذهب و الفضة لبنك إنجلترا و دار صك العملة الملكية .
و بجانب أنشطته الإقتصادية ساهم “ناثان روتشيلد” في العديد من الأنشطة الإجتماعية فى المناطق اليهودية حيث سعت عائلته في وقت لاحق فى القيام بعدد من الجهود الخيرية إلى السكان في “باريس” و “لندن” و لاحقًا دعم أفراد تلك العائلة تطوير دولة “إسرائيل” التى أنشئت بضغوط من الفرع البريطاني من تلك العائلة على الحكومة و نجحوا فى إنتزاع وعد بلفور بعد المساعدات التى قدموها لهم فى الحرب العالمية الأولي و بعدها شاركوا و ساعدوا في بناء المساكن و المباني الحكومية بها كما تولت “لويز” أصغر أبناء “ناثان” و بناتها السبع مسؤولية العديد من مؤسسات “روتشيلد” الخيرية الثلاثين في مدينة “فرانكفورت” و شملت هذه المؤسسات المكتبات العامة و دور الأيتام و المستشفيات و دور كبار السن و الصناديق الخاصة المخصصة لغرض التعليم و تلقت مدرسة اليهود الحرة في “لندن” دعما ماليا كبيرا منهم و أصبحت الجهود التعليمية في “النمسا”و “فرنسا” و “إسرائيل” ممكنة بفضل كرم عائلة روتشيلد كما قدمت الأسرة ما يقدر بنحو 60 ألف قطعة فنية للمؤسسات العامة و أيضا بتوسيع إنشاء الإسكان الاجتماعي في مدن “لندن” و “باريس ” و تأسيس مؤسسة لتعزيز هذه الجهود.
و مع مرور السنوات و نتيجة الحروب و السياسة و المنافسات الأسرية فقد أدي ذلك إلى تضاؤل ثروة عائلة روتشيلد على مدى المائة عام التالية و تم إغلاق فرع البنك في نابولي عام 1863 و نتيجة نقص الورثة الذكور فقد أدي ذلك إلى إغلاق فرع “فرانكفورت” عام 1901 تبعه إغلاق فرع “فيينا” عام 1938 عقب الغزو النازي للنمسا و الخطر الذي مثله ذلك على اليهود خلال الحرب العالمية الثانية كما صادرت حكومة “فيشي” في “فرنسا” ممتلكات عائلة روتشيلد و صادر النازيين ما قيمته ملايين الدولارات من الأعمال الفنية و أشياء ثمينة أخرى من الفرع النمساوي للعائلة (أعادت الحكومة النمساوية جزءًا منها في عام 1998) و على مر السنين تم التبرع بعقارات روتشيلد الفخمة إلى الحكومتين البريطانية و الفرنسية و المنظمات و الجامعات الأخرى و بحلول السبعينيات بقيت فقط ثلاثة بنوك لروتشيلد فى الخدمة و هم فرعي لندن و باريس و بنك سويسري أسسه “إدموند أدولف دي روتشيلد” و في عام 1982 وجهت الحكومة الاشتراكية للرئيس الفرنسي “فرانسوا ميتران” ضربة قاضية لبنك باريس و قامت بتأميمه و إعادة تسميته لإسم أخر و في عام 2008 أعيد تنظيم جميع مقتنيات عائلة روتشيلد في إطار شركة واحدة مقرها “فرنسا” و ذلك لتوحيد الشركات العائلية بعد قرنين تقريبًا من إنتشار أبناء “ماير” الخمسة في جميع أنحاء أوروبا.
و فى الوقت الراهن تمتد ممتلكات عائلة روتشيلد في عدد من الصناعات بما في ذلك الخدمات المالية و العقارات و التعدين و الطاقة و العمل الخيري بالإضافة إلي إمتلاك عائلة روتشيلد أيضًا أكثر من عشرة مصانع نبيذ في جميع أنحاء العالم و إرتبطت ملكية ناثان روتشيلد ارتباطًا وثيقًا بالثروات الأخرى للعائلة و أصبحت جزءًا من الثروة الجماعية التي نقلها كل روتشيلد إلى الجيل التالي و حاليا يواصل أحفاد عائلة روتشيلد تمويل العمليات التجارية العالمية و المساهمة في المساعي العلمية و الإنسانية و الثقافية و التجارية تطبيقا لشعار العائلة المكون من ثلاث كلمات الإنسجام و النزاهة و الصناعة.