طاعون الرقض

منذ قدم التاريخ و بين الحين و الأخر يجتاح العالم العديد من الاوبئة و الجوائح التى تقضى على الكثير من الناس و تكون لها العديد من التداعيات السلبيه سواء كانت من الناحية الاقتصاديه او البشريه , و بشكل عام فإنه من المعتاد أن تنشأ تلك الجوائح لأسباب طبيه نتيجة عدوى فيروسيه أو جرثوميه الا أنه خلال القرن السادس عشر تروى لنا كتب التاريخ عن ظهور وباء جديد و فريد من نوعه قام باجتياح مدينة أوربيه فى فرنسا تمثل بانخراط سكانها فى الرقص بشكل جماعى و متواصل و بدون سبب واضح فيما يشبه العدوى التى تنتقل من شخص الى أخر و رغم طرافة الأمر الا أنه أتخذ منحى شديد الخطورة بعد تسجيل عددا من الوفيات التى نجمت عن ذلك الرقص المستمر , و حتى الأن لا أحد يعرف أحد سبب تلك الظاهرة التى أطلق عليها اسم وباء الرقص و لا يوجد لدينا سوى بعض من الفرضيات من هنا و هناك .

بدأت القصة فى منتصف شهر يوليو عام 1518 فى مدينة ” ستراسبورج ” الفرنسيه حين نزلت امرأة من منزلها تدعى ” فراو تروفيا ” إلى الشارع و بدأت في الرقص بحماس دون سبب واضح و فى عدم وجود أى موسيقى و استمر ذلك معها لساعات و ساعات و بدا للناس أنها غير قادرة على منع نفسها من جنونها حتى انهارت أخيرًا و هي تتعرق و ترتعش على الأرض كما و لو كانت في نشوة ثم بدأت بالرقص مرة أخرى في اليوم التالي و فى الايام اللاحقة و بدون توقف حتى أن البعض قد ظن أنه تم اصابتها بمس شيطانى بعد معاناتها لعدة أيام من الرقص المستمر و الغير مفهوم لدرجة أنه تم إحضارها إلى أحد الأضرحه ربما كعمل من أعمال التكفير عن خطيئة قد تكون ارتكبتها لكن من دون أى نتيجة و سرعان ما بدأ أفراد آخرين في اتباع نفس النهج و في غضون أسبوع بدء أكثر من 30 شخصًا بالرقص ليلًا و نهارًا في شوارع “ستراسبورج” و فى الاماكن العامة و منازلهم و لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل تطور في غضون شهر و أصاب وباء الرقص ما لا يقل عن 400 مواطن معظمهم من الإناث و الذين أستمروا يرقصون لأيام دون راحة ليبدء الوضع فى التفاقم و التعقيد بعد تسجيل حالات وفاة بين هؤلاء الراقصين نتيجة النوبات القلبية و السكتات الدماغية الناجمة عن إرهاقهم حيث تشير احدى الروايات الى أن الوفيات وصلت الى 15 حاله يوميا فى ذروة الاصابه بوباء الرقص .

و نتيجة خروج الأوضاع عن السيطرة أستدعى المسئولين عن البلدة الأطباء لتوثيق الحدث و تشخيص تلك الحالات و محاولة إيجاد تفسير مقنع مع ايجاد حلول لها حيث استبعدوا فى البدايه الأسباب الفلكية و الخارقة للطبيعة و قرروا في النهاية أن الطريقة الوحيدة التي سيتعافى بها الراقصون هي مساعدتهم على الرقص و بالفعل قام المسئولين بتشييد خشبة مسرح و إحضار راقصين محترفين حتى أنهم استأجروا فرقة من الموسيقيين لعزف الموسيقى خلال رقصهم و بعد مرور وقت و عدم توجد اى بادرة تعافى على المصابين قام المسئولين باتخاذ سياسات معاكسه بأن اعتبروا أن ذلك ما هو الا غضب الهى و قد أصاب هؤلاء الأشخاص و بالتالي فُرضت الكفارة على المدينة إلى جانب حظر الموسيقى و الرقص في الأماكن العامة حيث استمرت تلك المشكلة لما يقارب اكثر من الشهر و مع حلول أغسطس أختفت الظاهرة بشكل مفاجئ بعد أن خلفت ورائها ما يقرب من 100 حالة وفاه .

أقرأ أيضا : متلازمة ستوكهولم .. قصة مصطلح شهير فى الطب النفسى نشأ بسبب إرتكاب جريمة سطو و احتجاز رهائن

و توالت السنوات و القرون و حاول الأطباء و الباحثين فى عصرنا الحالى و بناء على ما تم توثيقه الوصول الى تفسيرات لتلك الظاهره حيث اقترحوا العديد من الفرضيات لذلك الحدث الغريب و التى كان بعضها طبيا نتيجة حدوث تسمم أو صرع أو وجود دم فاسد فى الرأس أو لأمراض نفسية جماعيه نتجت من الظروف المروعة في “ستراسبورج” بذلك الوقت من الفقر المدقع و الامراض و الجوع لذلك كان الرقص هو الوسيلة الوحيدة للتنفيث عن تلك الضغوط و رجحت فرضيات أخرى أن الامر يتعلق ببعض من الأمور الدينيه حيث قالت ان سكان تلك المدينة كانوا يؤمنون بأنه اذا أثار أحدا غضب واحدا من القديسين و هو ” فيتوس الصقلى ” الذى توفى عام 300 بعد الميلاد فإنه يلعنه بهوس رقص لا يمكن السيطرة عليه و كان مرجع تلك الفرضيه هو ما أشارت اليه الوثائق التاريخيه بأنه تم نقل هؤلاء الراقصين في النهاية إلى ضريح القديس “فيتوس” الذى يقع في مغارة على تلال في بلدة “سافيرن” القريبة و هناك تم وضع أقدامهم الملطخة بالدماء في أحذية حمراء قبل أن يتم اصطحابهم مع تمثال خشبي للقديس و تقول فرضية أخرى أنه ربما قد يكون المشاركين قد تناولوا عن طريق الخطأ “فطر الشقران” و هو النسخة العضوية من عقار LSD الذى يؤدى الى حدوث تشنجات و نوبات وهلوسة الا أن تلك النظرية تم تفنيدها لأن الوثائق التاريخية التى أشتملت على مذكرات الأطباء و السجلات المحلية و حتى الملاحظات الصادرة عن مجلس مدينة “ستراسبورج” توضح أن ضحايا وباء الرقص لم يكونوا فى حالة تشنج حيث كانت أذرعهم و أرجلهم تتحرك كما لو كانوا يرقصون عن قصد و ليس تحت تأثير شئ ما .

القديس فيتوس الصقلى

و حتى الأن لم تقم أى فرضية منهم بالوصول الى تفسير دقيق لما حدث و رغم أنه لم يكن وباء الرقص الوحيد الذى اجتاح اوروبا لحدوث ظواهر مشابهة في سويسرا و ألمانيا و هولندا الا أنها لم تكن كبيرة أو مميتة بنفس الدرجة التى حدثت فى ” ستراسبورج ” عام 1518.

شارك الموضوع

عمرو عادل

فى الحياة الواقعيه مهندس ميكانيكا قوى اما فى الحياه الافتراضيه فباحث و كاتب و مدير الموقع دا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *