ثقب كولا

خلال فترة الحرب الباردة كان هناك سباق محموم بين كلا من الولايات المتحدة و الإتحاد السوفيتى فى كافة المجالات و اذا كان عصر سباق الفضاء و صعود الإنسان الى الأعلى واحدة منها فقد كان هناك أيضا سباق فى اتجاه معاكس للهبوط الى أعماق طبقات الأرض و معرفة أسرارها , و رغم صعوبة التضاريس فى روسيا و المتمثلة فى الغابات و الثلوج في شبه جزيرة كولا عند الدائرة القطبية الشمالية و التى مثلت مشكلة للسوفييت بعكس الأمريكيين الا أنهم أستطاعوا حسم ذلك السباق لصالحهم نسبيا ففى وسط تلك المناظر الطبيعية الخلابة تقف أنقاض محطة أبحاث علمية سوفيتية مهجورة و التى يوجد فى منتصف مبناها المتهدم غطاء معدني صدئ ثقيل مثبت على الأرضية الخرسانية و مؤمن إغلاقه بإحكام و الذى يعتبر بوابة لما يطلق عليها مدخل الجحيم المعروف بأنه أعمق نقطة وصل إليها الإنسان على سطح الأرض .

و يعتبر ثقب كولا العميق الموجود بالأراضى الروسية فى وقتنا الراهن أعمق حفرة من صنع الإنسان على وجه الأرض بمسافة تصل الى 12.2 كيلومترًا و أستغرقت من السوفييت ما يقرب من 20 عاما من الحفر للوصول الى هذا العمق من طبقات الأرض بعد اندلاع سباق بينهم و بين الأمريكيين للوصول الى اعمق نقطة و هى مسافة كبيرة جدًا لدرجة أن السكان المحليين يقسمون أنه يمكن سماع صرخات النفوس المعذبة في الجحيم منها كما أنها مسافة تساوى ثلث طبقة القشرة الأرضية تقريبا و كان من المفترض أن يستكمل باقى المشروع للوصول الى طبقة الوشاح الا أنه توقف نتيجة الاضطرابات السياسية و الفوضى التى اجتاحت البلاد بعد انهيار الإتحاد السوفيتى .

و نظرا للطبيعة المنغلقة للاتحاد السوفيتى فقد كان يرفض مشاركة بياناته مع باقى الدول الا أنهم زعموا عند بدأهم الحفر فى ذلك المكان بأنهم وجدوا مياهًا فيه الأمر الذى لم يصدقه معظم العلماء لأن لديهم فهم مشترك بأن طبقة القشرة كثيفة للغاية على عمق 5 كيلومترات بحيث لا يمكن للمياه أن تتخللها و رغم ذلك واصل الفريق الأمريكى و السوفيتى الحفر الذى كان ينظر الي فنونه و ألاته كدليلاً على البراعة الهندسية و التكنولوجيا المتطورة اضافة الى محاولة استكشاف مكان لم يذهب اليه أي إنسان من قبل حيث كانت عينات الصخور التي يمكن أن توفرها هذه الحفر العميقة مهمة جدا للعلم مثل أي شيء أحضرته وكالة ناسا من القمر الا أنه كان الاختلاف الوحيد أن الأمريكيين لم يفوزوا هذه المرة بالسباق و في الواقع لم يفعل أحد ذلك حقًا فالوصول الى عمق 12.2 كيلومتر يعنى أنه لايزال مطلوبا المزيد من الحفر فى طبقة القشرة التى يصل سمكها الى 40 كيلومتر لتأتى بعدها طبقة الوشاح ذات سمك 2900 كيلومتر يليها النواة و هى طبقات الأرض الأساسية .

و رغم التفوق النسبى فى ذلك المضمار للسوفييت الا أن بداية تدشينه كانت أمريكية فى أواخر الخمسينيات بعد تنفيذها برنامجا طموحا لاستكشاف الحدود العميقة فى طبقات الأرض يعرف بإسم ” مشروع موهول ” لمحاولة الوصول الى طبقة الوشاح و لكن بدلاً من حفر حفرة عميقة جدًا على سطح اليابسة قررت البعثة الأمريكية أن تأخذ طريقًا قصيرًا عبر قاع المحيط الهادئ قبالة غوادالوبي بالمكسيك حيث تتمثل ميزة الحفر في قاع المحيط في أن قشرة الأرض تكون رقيقة عن الموجودة باليابسة و لكن العيب الوحيد هو أن أرق طبقات القشرة تكون عادة أعمق النقاط الموجودة فى المحيط أما على الجانب الأخر فقد بدأ السوفييت الحفر في الدائرة القطبية الشمالية عام 1970 و أخيراً انضم الى السباق فريق جديد ألمانى عام 1990 حين بدأ الحفر في منطقة “بافاريا” و وصلوا فى النهاية إلى عمق 9 كم .

أقرأ أيضا : الثقوب الغامضة .. اللغز السيبيرى الذى أثار حيرة العلماء

و كما هو الحال مع المهمة إلى “القمر” كانت المشكلة التى تواجه القائمين عليها هي أن التقنيات اللازمة لنجاح تلك الرحلات الاستكشافية فى باطن الأرض يجب أن تُبتكر من الصفر فعندما بدأ “مشروع موهول” عام 1961 في قاع البحر كان التنقيب عن النفط و الغاز في البحار لا يزال بعيد المنال لذلك فلم يخترع أحد وقتها التقنيات الأساسية مثل تحديد المواقع الديناميكي الذي يسمح لسفينة الحفر بالبقاء في موقعها فوق البئر و بدلاً من ذلك كان على المهندسين الارتجال فقاموا بتركيب نظام مراوح على طول جوانب سفينة الحفر الخاصة بهم لإبقائها ثابتة فوق الحفرة كما كان أحد أكبر التحديات التي واجهها المهندسون الألمان هو الحاجة إلى حفر حفرة عمودية قدر الإمكان و هى كانت نفس المشكلة التى واجهها الروس نظرا الى أن كلا الفريقين كانوا يحفرون على اليابسة حيث كان يتعين علي الاثنين الحفر عموديًا قدر الإمكان و إلا فإنهم سوف يزيدون من عزم الدوران في المثاقب و تؤدى الى حدوث التواءات في الحفرة فكان الحل هو تطوير أنظمة حفر عمودية جديدة و تم العمل بها من دون حدوث أى مشاكل حتى عمق 7.5 كم ثم بعد ذلك كان آخر 1.5 إلى 2 كيلومتر من الحفرة بعيدة عن الخط العمودي لما يقرب من 200 متر و حاول الألمان الحصول على تلك الخبرة الروسية فى الحفر عندما أصبحت “روسيا” أكثر انفتاحًا و رغبة في التعاون مع الغرب و لكن لسوء الحظ لم يكن من الممكن الحصول على تلك المعدات في الوقت المناسب .

الفتحة الموجودة فى ألمانيا

و رغم كل تلك المحاولات الاستكشافية فى باطن الأرض الا أنها مرت و انتهت بدرجات من الإحباط لاحتوائها على بدايات حفر خاطئة و حدوث إنسدادات ثم كانت هناك درجات الحرارة المرتفعة التي واجهتها أجهزتهم في أعماق الأرض اضافة الى مشاكل التمويل و تأثيرات السياسة فقبل عامين من مشي “نيل أرمسترونج” على سطح القمر ألغى الكونجرس الأمريكي تمويل “مشروع موهول” عندما بدأت التكاليف تخرج عن نطاق السيطرة بعد أن وصلت الى 40 مليون دولار من دون نتائج ثم جاء الدور على ” ثقب كولا العميق ” حيث توقف الحفر فيه عام 1992 عندما وصلت درجة الحرارة إلى 180 درجة مئوية و كان ذلك ضعف ما كان متوقعًا عند هذا العمق و لم يعد الحفر أعمق من تلك النقطة ممكنًا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي حيث لم يكن هناك أموال لتمويل تلك المشاريع و بعد ثلاث سنوات تم إغلاق المنشأة بأكملها و حاليا يعتبر ذلك الموقع المقفر وجهة للسياح المغامرين اما الفتحة الألمانية فقد نجت من مصير الآخرين حيث لا يزال جهاز الحفر الضخم موجودًا و هو عامل جذب سياحي اليوم أيضا و لكن الرافعة الموجودة فيه تستخدم اليوم فقط فى انزال أدوات القياس ليصبح الموقع مرصدًا للكوكب .

المنشأة المهجورة الموجود بها ثقب كولا

و من بين تجارب القياس التى اجريت داخل الفتحة الألمانية تجربة صوتية قامت من خلالها الفنانة الهولندية “لوت جيفان” بإنزال ميكروفونها المحمي بدرع حراري الى أسفل باطن الأرض و الذى التقط صوت هدير عميق و مخيف لم يستطع العلماء تفسيره حيث قالت عن ذلك الصوت ان بعض الناس يظنون أنه يبدو و كأنه جحيم فى الأسفل بينما يعتقد البعض الآخر أنه صوت تنفس الكوكب أما بالنسبة الى الحفرة نفسها فقال المشرفين عنها وقتها أن الخطة التى كانت موضوعة هى الحفر بعمق أكبر من السوفييت لكنهم لم يصلوا حتى إلى المرحلة المسموح بها و البالغة 10 كيلومترات لأن المكان الذى يحفرون فيه أكثر سخونة مما كان عليه الروس و من الواضح جدًا أنه سيكون من الصعب التعمق أكثر من ذلك مضيفين أنه توجد صعوبة فى الحصول على تمويل لأن توحيد ألمانيا كان يكلف الكثير من المال فى ذلك الوقت و عليه فهو أهم من الانخراط فى الحفر .

أقرأ أيضا : لم يستطيع أحد الوصول اليها سوى ثلاثة أفراد .. تعرف على خندق ماريانا أعمق نقطة موجودة على الأرض

و فى الوقت الحالى يتم اعادة احياء تلك المشاريع مجددا بمشروع “M2M-MoHole to Mantle” لاستكشاف المحيطات بتكلفة تقدر بمليار دولار فكما هو الحال مع “مشروع موهول” الأصلي يخطط العلماء للتنقيب في قاع البحر حيث يبلغ عمق القشرة فيها حوالي 6 كيلومترات فقط بهدف الوصول الى صخور طبقة الوشاح لأول مرة في تاريخ البشرية و معرفة المزيد عن حدود طبقات الأرض بين القشرة و الوشاح حيث ستستخدم سفينة الحفر الضخمة ” شيكايو ” المعتمدة على نظام الـ GPS و ست طائرات قابلة للضبط يتم التحكم فيها بواسطة الكمبيوتر يمكنها تغيير موضع السفينة الضخمة بمقدار 50 سم فقط و تم اختيار ثلاثة مواقع رئيسية مرشحة للحفر فى إحداها واحدة من هؤلاء قبالة سواحل “كوستاريكا” و واحد قبالة “باها” و واحد قبالة “هاواي ” .

شارك الموضوع

عمرو عادل

فى الحياة الواقعيه مهندس ميكانيكا قوى اما فى الحياه الافتراضيه فباحث و كاتب و مدير الموقع دا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *