انتهت الحرب العالمية الأولى بعد تركها لمأساة غير مسبوقه تمثلت فى مقتل ما يقارب من 20 مليون شخص و حين حاول العالم تنفس الصعداء كان على موعد مع كارثة من نوع أخر تمثلت فى انتشار وباء تنفسى أطلق عليه اسم الإنفلونزا الإسبانية الممثل فى فيروس لا يمكن رؤيته بالعين المجردة و رغم ذلك تسبب فى وفاة اعدادا تتراوح ما بين 20 الى 50 مليون شخص أى أكثر من ضعف ضحايا الحرب و أصاب ما يقارب من نصف مليار شخص و هو عدد يعادل ثلث سكان العالم حيث سجل ظهور ذلك الوباء لأول مرة عام 1918 في أوروبا و الولايات المتحدة و أجزاء من آسيا قبل أن ينتشر سريعا فى جميع أنحاء العالم من القطب الشمالى الى الجزر النائية بالمحيط الهادئ فى فترة لم يكن لدى العالم عقاقير أو لقاحات فعالة لمكافحة تلك السلالة القاتلة التى أسفرت عن خسائر بشرية و مادية ضخمه لذلك لم يكن امام الحكومات سوى إصدار مجموعة من الأوامر للمواطنين بارتداء أقنعة الوجه مع أغلاق تام للمدارس و المسارح و الشركات إلى أن أختفى الوباء و أنهى مسيرته العالمية المميتة و يعود العالم مرة أخرى الى طبيعته اوائل عام 1920 .

ما هو فيروس الإنفلونزا ؟

يعتبر فيروس الانفلونزا H1N1 أشهر الفيروسات التنفسية و يتميز بأنه شديد العدوى فعندما يسعل أحد الأشخاص المصابين أو يعطس أو يتحدث تتولد منه قطرات تخرج من جهازه التنفسى لتنتقل في الهواء و يمكن بعد ذلك استنشاقها من قبل أي شخص قريب منه كما يمكن أن يصاب الشخص عن طريق تلامس يديه بسطح ملوثا بالفيروس ثم يقوم بعدها بلمس فمه أو عينيه أو أنفه و هو فيروس موسمى ينتشر كل عام فى ما بين أواخر الخريف و حتى الربيع و تعتمد شدته على نوع التحور الذى يحدث به حيث يدخل ما لا يقل عن 200 ألف أمريكي إلى المستشفى سنويا بسبب المضاعفات المتعلقة بذلك الفيروس و على مدار العقود الثلاثة الماضية كان هناك اعداد تراوحت ما بين 3000 إلى 49 ألف حالة وفاة مرتبطة بالإنفلونزا سنويًا وفقًا لمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها .

أقرأ أيضا : عشرة كوراث تنتظرها الأرض و يتوقعها العلماء ليخرج كوكبنا تماما من الخدمه و معه كامل الحياة البشريه

أعراضه و خطورته

فى بعض الأحيان قد تكون أعراض الاصابة بالفيروس خفيفه و تتمثل فى القشعريرة و الحمى و الإرهاق و عادة ما يتعافى المرضى بعد عدة أيام و لكن قد يحدث تحورات تؤدى الى نوع أكثر شراسه تؤدى الى حدوث تداعيات خطيرة مثل الالتهاب الرئوي و التهابات الأذن و الجيوب الأنفية و التهاب الشعب الهوائية قد تؤدى الى حدوث الوفاه فى غضون أيام أو حتى ساعات من ظهور الأعراض حيث يتحول لون بشرة المتوفين الى الأزرق و تمتلئ رئتيهم بالسوائل التى تتسبب فى حدوث اختناقات و رغم انه فيروس موسمى الا أنه فى بعض الاحيان يكون شديد العدوى و قد ينتشر بشكل وبائى مثلما حدث عام 1918 عندما ظهرت سلالة إنفلونزا جديدة شديدة الشراسه و التي لم توجد لها سوى مناعة قليلة جدا أو معدومة و ساهمت فى ذلك العام فى انخفاض متوسط العمر المتوقع في الولايات المتحدة بمقدار اثني عشر عامًا .

و يؤثر فيروس الانفلونزا بشكل كبير على الأطفال الصغار و الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 عامًا و النساء الحوامل و الأشخاص الذين يعانون من حالات طبية معينة مثل الربو أو السكري أو أمراض القلب .

إنتشار جائحة الإنفلونزا الإسبانية

موجاتها

حدث ذلك الوباء في ثلاث موجات حيث أنتشرت الموجة الأولى على ما يبدو في أوائل مارس عام 1918 خلال الحرب العالمية الأولى و على الرغم من عدم التأكد من مكان ظهور الفيروس لأول مرة إلا أنه انتشر بسرعة كبيرة عبر أوروبا الغربية و بحلول يوليو انتقل الى “بولندا” و كانت تلك الموجة من الأنفلونزا خفيفة نسبيًا و كان عدد وفياتها مقارب للمعدل الطبيعى السنوى الا أنه خلال فترة الصيف تم التعرف على نوع جديد أكثر فتكًا من النوع الأول و شديد العدوى لتبدء الموجة الثانيه فى النصف الثانى من أغسطس و التى صاحبت أعراضها فى الغالب ظهور الالتهاب الرئوي سريعا و عادةً ما كانت تأتي الوفاة بعد يومين من ظهور الأعراض الأولى للإنفلونزا فعلى سبيل المثال في معسكر “كامب ديفينس” فى ولاية “ماساتشوستس” الامريكيه و بعد ستة أيام من الإبلاغ عن أول حالة به كان هناك أكثر من 6500 حالة جديدة فى المعسكر حيث كان شهر أكتوبر فى ذلك العام هو الأكثر دمويه بعد أن شهد أعلى معدل وفيات طوال مدة الجائحة بأكملها و بحلول ديسمبر كانت الموجة الثانية قد انتهت و سرعان ما بدأت الموجة الثالثة في يناير عام 1919 حيث كانت أقل فتكا من الموجة الثانيه و أشد من الأولى و فى خلال الموجتين الثانية و الثالثه كان حوالي نصف عدد الوفيات ترجع لاعمار تتراوح ما بين 20 إلى 40 عامًا و هو نمط عمرى غير مألوف للوفيات بسبب الإنفلونزا.

ظهورها و تسميتها

من غير المعروف تحديدا من أين أتت تلك السلالة المميته من الإنفلونزا التي تسببت في ذلك الوباء و مع ذلك لوحظت لأول مرة عام 1918 في أوروبا و أمريكا و مناطق من آسيا قبل أن تنتشر فى غضون أشهر إلى كل جزء من الكوكب حيث تقول بعض من الفرضيات أنها بدأت في قاعدة للجيش البريطاني الموجود بفرنسا بينما تقول فرضية أخرى وإن كانت محل خلاف أنها بدأت في شمال الصين و نقلها العمال الصينيون إلى أوروبا و هناك فرضية اخرى جديرة بالملاحظة وهي أنها نشأت في معسكر “فونستون” في فورت رايلي بولاية “كانساس” الامريكيه في مارس عام 1918 لطاه فى المعسكر يدعى ” ألبرت جيتشل ” , و على الرغم من حقيقة أن تلك الجائحه لم تكن متوطنة في مكان واحد إلا أنها أصبحت معروفة في جميع أنحاء العالم باسم “الإنفلونزا الإسبانية” نتيجة تضرر “إسبانيا” بشدة من المرض مثل سائر دول العالم مع فارق ان وسائل اعلامها لم تكن خاضعة تحت الرقابة لحيادها في زمن الحرب عن باقى الدول الأوربيه التى فرضت تعتيما كبيرا حول ذلك الموضوع للحفاظ على الروح المعنوية مرتفعة فى جبهات القتال لذلك نشرت صحفها كل أخبار تلك الجائحه و قامت بتغطيتها و شرح أعراضها و مدى انتشارها فى البلاد و هو الأمر الذى أدى الى التصاق إسم ” إسبانيا ” بها بعد اعتقاد الكثيرين أن الجائحة قد نشأت فيها على و هو عكس الحقيقه حيث بلغت الرقابة على الاعلام فى اوروبا للتعتيم على تلك الجائحة حدا جعل مسؤولي الصحة في “إسبانيا” على عدم دراية بأن الدول المجاورة لها تأثرت أيضا كما أن بعضا منهم ظن أن بداية ظهورها كان فى “فرنسا” و أطلقوا عليها اسم ” الانفلونزا الفرنسيه ” اما الفرنسيين فقد أطلقوا عليها أولا اسم ” الانفلونزا الامريكيه ” و سرعان ما غيروا اسمها الى الاسبانيه تجنبا لاستفزاز حلفائهم الامريكيين و فى أفريقيا تم تسميتها “مرض الرجل الأبيض” و البولنديين اطلقوا عليها اسم “المرض البلشفى” .

و تعد أحد الجوانب الغير عادية لإنفلونزا عام 1918 هو أنها أصابت العديد من الشباب الذين كانوا يتمتعون بصحة جيدة و هم عادةً يتمتعون بمناعة مثاليه لمواجهة ذلك النوع من الأمراض الا انه و على النقيض مات عدد ليس بالقليل من الجنود الأمريكيين بسببها أكثر من الذين قتلوا في المعارك أثناء الحرب حيث أصيب بها نحو 40% من قوام قوات البحرية الأمريكية و 36 % من أفراد الجيش كله و ساهمت القوات العسكريه التي تتنقل في جميع أنحاء العالم عبر السفن و القطارات المزدحمة في انتشار ذلك الفيروس القاتل حيث كان يحدث التفشى أولاً في الموانئ ثم ينتشر من مدينة إلى مدينة على طول طرق النقل الرئيسية و يُعتقد أن “الهند” عانت من تلك الجائحة كثيرا حيث سجلت ما لا يقل عن 12.5 مليون حالة وفاة و وصل المرض إلى جزر بعيدة في جنوب المحيط الهادئ بما في ذلك “نيوزيلندا” و “ساموا” و في الولايات المتحدة مات حوالي 550 ألف شخص حيث حدثت معظم الوفيات في جميع أنحاء العالم خلال الموجتين الوحشيتين الثانية و الثالثة.

و على الرغم من أن عدد القتلى المنسوب إلى الإنفلونزا الإسبانية يقدر في كثير من الأحيان بحوالي 20 إلى 50 مليون ضحية في جميع أنحاء العالم فإن بعض من التقديرات الأخرى تشير إلى 100 مليون ضحية أى حوالي 3 % من تعداد سكان العالم و من المستحيل معرفة الأرقام الدقيقة بسبب الافتقار إلى حفظ السجلات الطبية في العديد من الأماكن بذلك الوقت و لكن ما هو معروف أن عددًا قليلاً من المواقع كانت محصنة ضد تلك الجائحه مثل مجتمعات ألاسكا النائية و بحسب ما ورد فقد أصيب الرئيس الأمريكى “وودرو ويلسون” بالأنفلونزا في أوائل عام 1919 أثناء التفاوض على “معاهدة فرساي” التي أنهت الحرب العالمية الأولى.

أقرأ أيضا : وباء الرقص .. قصة جائحة غامضه أجبرت المصابين بها على الرقص و أدت الى وفاة الكثير منهم

مكافحة الإنفلونزا الإسبانية

عندما ظهرت تلك الجائحه كان الأطباء و العلماء غير متأكدين من سببها أو كيفية علاجها و على عكس اليوم لم تكن هناك لقاحات فعالة أو أدوية مضادة للفيروسات تعالج الأنفلونزا حيث ظهر أول لقاح مرخص لها لاحقا في ” الولايات المتحدة ” خلال الأربعينيات و بحلول العقد التالي كان بإمكان المصنعين إنتاج لقاحات بشكل روتيني تساعد في السيطرة على ذلك الوباء مستقبلا عبر الوقاية منه و بالعودة الى زمن الجائحه فإن ما زاد الأمور تعقيدًا لمواجهتها فى تلك الفترة فى الولايات المتحدة هو أن الحرب العالمية الأولى تركت أجزاءً من البلاد تعاني من نقص فى الأطباء و العاملين الصحيين الآخرين و حتى من توفر منهم أصيب بالفيروس هو الاخر إضافة إلى ذلك كانت المستشفيات في بعض المناطق مكتظة بمرضى الإنفلونزا لدرجة أنه كان لا بد من تحويل المدارس و المنازل الخاصة و المباني الأخرى إلى مستشفيات مؤقتة و التى كان بعضها مزودًا بطلاب فى كلية الطب فقط .

و نتيجة لسرعة انتشارها فرض المسؤولين في بعض الدول الحجر الصحي و أمروا المواطنين بارتداء الأقنعه و إغلاق الأماكن العامة بما في ذلك المدارس و الكنائس و المسارح مع نشر ارشادات تنصح الناس بتجنب المصافحة و التباعد الاجتماعى و البقاء في منازلهم و أوقفت المكتبات إقراض الكتب و صدرت لوائح تحظر البصق و وفقًا لصحيفة “نيويورك تايمز” فخلال الوباء كان فتيان الكشافة في مدينة “نيويورك” يقتربون من الأشخاص الذين يروهم يبصقون في الشارع و يعطوهم بطاقات مدون عليها: “أنت تنتهك القانون الصحي” كما فرضت الغرامات على الاشخاص الذين لا يرتدون الكمامات بعد توجيه تهم اليهم بزعزعة السلم الاجتماعى .

و نتيجة عدم وجود علاج للإنفلونزا وصف العديد من الأطباء الأدوية التي شعروا أنها قد تخفف الأعراض بما في ذلك “الأسبرين” الذي تم تسجيل برأة اختراعه عام 1899 و التى انتهت صلاحيتها عام 1917 مما يعني أن الشركات الجديدة كانت قادرة على إنتاج ذلك الدواء أثناء وباء الإنفلونزا الإسبانية و أوصت مجلة الجمعية الطبية الامريكيه باستخدامه و نصح الأخصائيون المرضى بتناول ما يصل إلى 30 جرامًا يوميًا و هي جرعة معروفة الآن بأنها سامة نظرا لاجماع الاطباء فى الوقت الحالى أن الجرعات التي تزيد عن أربعة جرامات تعد غير آمنة حيث شملت أعراض التسمم بالأسبرين فرط التنفس و الوذمة الرئوية أو تراكم السوائل في الرئتين و يعتقد الآن أن العديد من زيادات معدل الوفيات خلال شهر أكتوبر كانت في الواقع بسبب التسمم بالأسبرين .

خسائر الجائحه

تسببت الإنفلونزا الإسبانية في خسائر بشرية فادحة حيث قضت على عائلات بأكملها و تركت في أعقابها عددًا لا يحصى من الأرامل و الأيتام و اكتظت صالات الجنائز و تكدست الجثث و اضطر الكثير من الناس إلى حفر قبور لأفراد أسرهم بانفسهم كما أنها كانت ضارة بالاقتصاد في “الولايات المتحدة” حيث أُجبرت الشركات على الإغلاق لأن الكثير من الموظفين كانوا مرضى و تعطلت الخدمات الأساسية مثل تسليم البريد و جمع القمامة بسبب العمال المصابين و في بعض الأماكن لم يكن هناك عدد كافٍ من عمال المزارع لحصاد المحاصيل حتى ان إدارات الصحة الحكومية و المحلية أغلقت أبوابها للعمل مما أعاق الجهود المبذولة لتأريخ انتشار الجائحه عام 1918 و تزويد الجمهور بإجابات حول هذا الموضوع.

نهاية الإنفلونزا الإسبانية

بحلول صيف عام 1919 انتهت جائحة “الإنفلونزا الإسبانية” و التى لم يعرف حتى الان أسباب انتهائها سوى بعض من الفرضيات تمثلت فى ان انتهاء الحرب كانت عاملا كبيرا فى عدم انتشار العدوى او زيادة القدرة فى توفير العقاقير او حدوث تطورات فى المناعة لدى الاحياء التى استطاعت مقاومتها او حدوث طفرة للفيروس نفسه جعلته أقل حدة و شراسه او مزيج من كل مما سبق و بعد ما يقرب من 90 عامًا و في عام 2008 أعلن مجموعة من الباحثين أنهم اكتشفوا السبب الذى جعل تلك السلالة مميتة للغاية و ذلك نتيجة حدوث تحور مكن ثلاثة جينات داخل الفيروس من إضعاف الشعب الهوائية و رئتي الضحية و تمهيد الطريق لحدوث إلتهاب رئوى جرثومى .

و بعد عام 1918 اجتاح العالم عددا من أوبئة الأنفلونزا الأخرى و رغم عدم وجود أي جوائح قاتلة تلت ذلك الا ان ذلك الفيروس تسبب في الفترة من عام 1957 و حتى 1958 فى مقتل مليوني شخص من جميع أنحاء العالم منهم 70 ألفا في “الولايات المتحدة” كما حدثت جائحة عام 1968 تسببت فى وفاة مليون شخص عالميا كما لقى أكثر من 12 ألف أمريكي حتفهم خلال وباء “إنفلونزا الخنازير” الذي حدث في الفترة من 2009 إلى 2010 و حاليا يواجه العالم مأساة جديدة تتعلق بانتشار جائحة فيروس كورونا حيث تتسابق البلدان لإيجاد علاج له او توفير لقاحات كافيه لمنع انتشاره قدر الامكان .

شارك الموضوع

عمرو عادل

فى الحياة الواقعيه مهندس ميكانيكا قوى اما فى الحياه الافتراضيه فباحث و كاتب و مدير الموقع دا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *