مع حلول الوقت الذي انتهت فيه الحرب العالمية الثانية كانت الولايات المتحدة و الإتحاد السوفيتى ” روسيا حاليا ” فى حالة من الصمت الذى يتخلله الشكوك نحو أنشطة بعضهم البعض لذلك بذل كلا الجانبين قصارى جهدهم لجمع المعلومات عن الطرف الأخر لمعرفة نواياه و امكانياته حال حدوث أى صدام مرتقب و مع البدء فى حقبة الحرب الباردة أصبح الحصول على المعلومات و تحليلها هى المسعى الرئيسى لأجهزة مخابرات كلا البلدين سواء كانت المخابرات المركزية الأمريكية CIA أو المخابرات السوفيتية KGB حيث أستخدم كلا الجهازين فى تلك الفترة جميع الوسائل المتاحة لذلك اما من خلال الجواسيس و العملاء الذين تم زرعهم أو تجنيدهم أو من خلال القيام بعمليات جريئة للتصنت على المكالمات مثل ما حدث خلال العملية جولد فى ألمانيا او أعتراض الإتصالات عبر البحر عن طريق العملية إيفي بيلز التى مكنت الحكومة الأمريكية من الحصول على معلومات لا تقدر بثمن و ساهمت فى عدم إستمرار تلك الحرب لفترة أطول مما كانت عليه أو تتصاعد أكثر إلى صراع عالمي .
فمع إندلاع الحرب الباردة كانت “الولايات المتحدة” بحاجة ماسة إلى التعرف على طبيعة الصواريخ الباليستية العابرة للقارات و تكنولوجيا الغواصات الذى يمتلكها “الإتحاد السوفيتى” و مدى قدراته حال قيامه بالضربة النووية الأولى و خلال أوائل السبعينيات نما الى علم الامريكيين وجود كابل للاتصالات يمر تحت بحر “أوخوتسك” بين شبه جزيرة “كامتشاتكا” و البر الرئيسي الروسي و الذى يربط بين القاعدة البحرية لأسطول المحيط الهادئ السوفيتي في “بتروبافلوفسك” بمقر الأسطول الرئيسي في “فلاديفوستوك” و كانت تلك المنطقة تعتبرها “روسيا ” جزءًا من مياهها الإقليمية و عليه كان دخول السفن الأجنبية إليها محظورًا و للتأكد من عدم انتهاك سيادتها قامت البحرية السوفيتية بتركيب شبكة من أجهزة الكشف عن الصوت في قاع البحر و التى صممت خصيصا للبحث عن أى متسللين اضافة أيضًا الى العديد من التدريبات البحرية السطحية و تحت السطحية .
و على الرغم من جميع تلك العقبات فقد كانت محاولة الوصول الى ذلك الكنز الإستراتيجى مغرية للغاية و أكبر من أن يتم تجاهلها لذلك و في أكتوبر عام 1971 قررت “الولايات المتحدة” البدء فى عملية إستخبارية جريئة أطلق عليها إسم ” العملية إيفي بيلز ” و هى مهمة تعاون مشتركة بين البحرية الأمريكية و وكالة الاستخبارات المركزية و التى بدأت من خلال إرسال الغواصة الأمريكية ” هاليبوت ” إلى أعماق بحر “أوخوتسك” حيث كانت معدلة خصيصا لذلك الغرض و تم تحويل الأموال الخاصة بذلك المشروع سراً من برنامج الإنقاذ العميقة (DSRV) و بمجرد اقتراب الغواصة من الموقع المشار إليه عثر غواصى البحرية الأمريكية على الكابل الذى كان على عمق 120 مترًا من سطح الماء و قاموا بتركيب جهاز تصنت بطول 6.1 مترًا ليلتف حول الكابل دون أن يخترق غلافه و يبدء فى تسجيل جميع الاتصالات التي تمت عبره و هو جهاز صمم بطريقة يسهل فصله إذا تم رفع الكابل الى اعلى للإصلاح و ذلك لعدم اكتشافه من قبل طاقم الصيانة .
و كانت ” العملية إيفى بيلز ” سرية للغاية لدرجة أن معظم البحارة المشاركين فيها لم يكن لديهم التصريح الأمني اللازم لمعرفة تفاصيلها حيث تم إنشاء قصة وهمية لإخفاء المهمة الفعلية و زُعم اليهم أنه يتم إرسال غواصات التجسس إلى ذلك النطاق البحري السوفيتي في تلك المنطقة لاستعادة حطام أحد الصواريخ السوفيتية المضادة للسفن و الأسرع من الصوت لمحاولة معرفة أسراره و تطوير التدابير المضادة له حيث لم تكن قصة خيالية بالكامل لأنه بالفعل فى وقت من الأوقات استعاد غواصوا البحرية الأمريكية جميع حطام ذلك الصاروخ و الذى بلغ ما يقارب من مليونى قطعه لم تتجاوز أكبرها 150 مم و تم نقلها إلى “الولايات المتحدة” و أعيد بناؤها مجددا في مختبر أبحاث البحرية الأمريكية و بناءً على هذه القطع تم إجراء هندسة عكسية له و اكتشاف أنه كان يسترشد بالرادار فقط و أن التوجيه بالأشعة تحت الحمراء الذى كان يعتقد سابقًا انه كان يعتمد عليه لم يكن موجودًا .
و بالعودة الى ” العملية إيفي بيلز ” فقد كان كل شهر يقوم الغواصين الأمريكيين باسترداد التسجيلات و تركيب مجموعة جديدة من الأشرطة ثم يتم تسليم ما تم التقاطه منها إلى وكالة الأمن القومي لمعالجتها و توزيعها على وكالات الاستخبارات الأمريكية الأخرى حيث كشفت الأشرطة الأولى التي تم تسجيلها أن السوفييت كانوا متأكدين جدًا من أمان الكابل لدرجة أن غالبية المحادثات التي تمت من خلاله كانت غير مشفرة كما قدمت عمليات التنصت حركة المرور بين كبار الضباط السوفييت و معلومات لا تقدر بثمن عن العمليات البحرية في منطقة “بتروبافلوفسك” و التى كانت قاعدة الغواصات النووية الأساسية لأسطول المحيط الهادئ و موطن غواصات الصواريخ الباليستية من فئة “يانكي” و “دلتا” التي تعمل بالطاقة النووية .
و نظرا للثروة المعلوماتية التى حصلت عليها ” الولايات المتحدة ” من جراء العملية ” إيفى بيلز ” فقد تم تثبيت المزيد من أجهزة التصنت على الخطوط السوفيتية في أجزاء أخرى من العالم و بإستخدام أدوات أكثر تقدمًا تم تصنيعها بواسطة معامل أكبر شركات الإتصالات الأمريكية مثل AT & T’s حيث كانت تعمل بمولد كهربائي حراري بالنظائر المشعة و يمكنها تخزين البيانات لمدة عام كما استخدمت البحرية الأمريكية ما يقارب من 189 غواصة أخرى لهذا الدور و فى خلال احدى المهمات كادت واحدة منهم أن تضيع بعد أن تقطعت بها السبل في القاع بعد هبوب عاصفة فى المكان الذى يتواجدون فيه و كان عليها تقريبًا استخدام تكنولوجيا التدمير الذاتي لإغراقها مع طاقمها لولا انه تم انقاذها فى اللحظات الأخيرة .
و لأن لكل بداية نهاية فقد أنتهت العملية ” إيفي بيلز ” على يد أحد الجواسيس السوفييت و يدعى ” رونالد بيلتون ” و الذى عمل فى وكالة الأمن القومى الأمريكى و هو شخص كان يجيد اللغة الروسية و مدينًا بمبلغ 65 ألف دولار و قدم طلبًا للإفلاس الشخصي قبل ثلاثة أشهر فقط من استقالته و نتيجة وجود بضع مئات من الدولارات فقط في حسابه البنكى فقد دخل إلى السفارة السوفيتية في “واشنطن” العاصمة في يناير عام 1980 و عرض عليهم بيع كل ما يعرفه من معلومات إلى المخابرات السوفيتية مقابل المال حيث تلقى منهم 35 ألف دولار فى الفترة بين عامى 1980 إلى 1983 مع مكافأة خاصة قدرها 5000 دولار عن المعلومات الاستخباراتية التى سردها عن العملية ” إيفى بيلز ” حيث لم يتخذ السوفييت أي إجراء على الفور بشأن هذه المعلومات و مع ذلك و في عام 1981 أظهرت أقمار التجسس الأمريكية وجود سفن حربية سوفيتية بما في ذلك سفينة إنقاذ راسية فوق موقع جهاز التصنت في بحر “أوخوتسك” و بعد ذلك تم إرسال احدى الغواصات لاستعادة الجهاز لكن الغواصين الأمريكيين لم يتمكنوا من العثور عليه و خلصوا إلى أن السوفييت قد أخذوه و في يوليو عام 1985 انشق الجاسوس السوفيتى “فيتالي يورتشينكو ” و هو عقيد كان يعمل في المخابرات السوفيتية و الذى قدم معلومات أدت في النهاية إلى اعتقال بيلتون .
أقرأ أيضا : مشروع ام كيه ألترا MK Ultra.. برنامج أبحاث المخابرات الأمريكية السري للتحكم فى العقول
و أنتهت العملية ” إيفى بيلز ” و التى تعتبر الى حد ما ناجحة بعد أن زودت ” الولايات المتحدة ” بمعلومات وفيرة عن قدرات الضربات النووية الروسية و التى أدت في النهاية إلى التوقيع على اتفاقية الحد من الأسلحة الاستراتيجية SALT II فى أواخر السبعينيات و ساهمت بشكل غير مباشر في إنهاء الحرب الباردة و اعتبارا من عام 1999 كان جهاز التسجيل الذي كان موضوعا فوق الكابل البحرى و استولى عليه السوفييت معروضًا للجمهور في متحف الحرب الوطنية العظمى في “موسكو “.