إغتيال الأرشيدوق فرانز فرديناند

دائما ما تأتي النيران من مستصغر الشرر و هى مقولة مأثورة تحولت إلي واقع حين أطلق شاب ثوري صربي يدعي غافريلو برنسيب النار علي الأرشيدوق فرانز فرديناند الوريث المفترض للعرش النمساوي المجري و زوجته صوفي أثناء زيارتهم للعاصمة البوسنية سراييفو و نجم عن ذلك الحادث إندلاع حرب شاملة قضت علي الأخضر و اليابس عرفت بإسم الحرب العالمية الأولي أو الحرب العظمي التى أستمرت لأربعة سنوات و خلفت ورائها مأسي بشرية وصلت إلي سقوط ملايين القتلي و الجرحي من مدنيين و عسكريين بالإضافة إلي خسائر مادية هائلة من دمار و خراب عم القارة الأوربية بأكملها و في بعض مناطق أخري من العالم و أسفرت في النهاية علي إندثار دول و إمبراطوريات من الخريطة و تشكل دول أخري .

بدأت قصة إغتيال الأرشيدوق “فرانز فرديناند” حين أختار الزواج من “صوفي تشوتيك” عام 1900 م رغم معارضة عمه الإمبراطور “فرانز جوزيف” لتلك الزيجة و رفضه حضور مراسم زفافهما بدعوي أنها لم تكن لائقة إجتماعيا بالنسبة له على الرغم من أنها ليست من عامة الناس تمامًا حيث تنحدر من طبقة النبلاء التشيكيين إلا أنه لم يكن أمرا كافيا لمباركة الزواج لأنه من كان مطلوبا هو زوجة تنحدر من سلالة حاكمة أوروبية و نتيجة لذلك تم إعلان أن أطفالهم غير مؤهلين للعرش و أصبحت “صوفي” ضحية لعدد لا يحصى من الإهانات مثل دخولها الغرف دون مرافقين و الجلوس بعيدًا عن زوجها على مائدة العشاء و مع ذلك أحتفظ الأرشيدوق ” فرانز فرديناند ” بإمتيازاته الإمبراطورية بصفته وريث العرش و المفتش العام للجيش و بهذه الصفة تحديدا كان يجهز نفسه لحضور سلسلة من التدريبات العسكرية في يونيو عام 1914 و تقام في دولة البوسنة والهرسك التى ضمتها مملكة “النمسا-المجر” إلي أراضيها قبل سنوات قليلة على عكس رغبات “صربيا” الدولة المجاورة و التي كانت تطمع في فعل ذلك هي الاخري .

الأرشيدوق فرانز فرديناند و زوجته صوفي

و علي الرغم من كره الأرشيدوق ” فرانز فرديناند ” للصربيين حتى أنه كان ينعتهم بالخنازير و اللصوص و القتلة و الأوغاد إلا أنه كان يعارض بشدة ضم تلك الأراضي خوفًا من أن ذلك القرار يجعل الوضع السياسي المضطرب أساسا في تلك المنطقة أسوء مما هو عليه حيث كانت “البوسنة و الهرسك” تحت سيطرة الإمبراطورية العثمانية سابقًا و يشكل الصرب 40% من سكانها و 30 % من المسلمين و 20 % من الكروات و الباقي مقسم علي عرقيات أخري لذلك كان يوجد إحتقان سياسي كبير في الداخل و هو ما دفع مجموعة سرية يطلق عليها إسم ” الشباب البوسنيين في التخطيط لإغتيال الأرشيدوق ” فرانز فرديناند ” فور علمهم بوصوله لزيارة البلاد و لترتيب تلك العملية سافر “غافريلو برينسيب” و “تريفكو جرابيز” و “نيديليكو كابرينوفيتش” إلى العاصمة الصربية “بلجراد” حيث أستلموا من أعضاء منظمة ” اليد السوداء ” و هي جماعة إرهابية ذات صلة بالجيش الصربي ستة قنابل يدوية و أربعة مسدسات نصف آلية و كبسولات إنتحارية من السيانيد و بعد التدرب على أسلحتهم في حديقة “بلجراد” عاد الثلاثي إلى “البوسنة والهرسك” و هناك تلقوا المساعدة من عملاء “اليد السوداء” الذين قاموا بتهريب أسلحتهم عبر الحدود و حتى يومنا هذا لا يزال من غير الواضح عما إذا كانت الحكومة الصربية قد شاركت هي الاخري في ذلك المخطط .

الأرشيدوق فرانز فرديناند و زوجته صوفي
الأرشيدوق فرانز فرديناند و زوجته صوفي

و بحلول يوم 23 من يونيو عام 1914 غادر الأرشيدوق ” فرانز فرديناند ” و زوجته “صوفي” مقر إقامتهم متجهين إلى البوسنة والهرسك علي الرغم من تلقيهم تحذيرات بإحتمالية وجود مخاطر قد يتعرضون لها و وجود توصيات أمنية لإلغاء تلك الرحلة إلا أنهم لم يستمعوا إليها و أتجهوا إلي هناك و وصلوا إلى منتجع صحي يقع على بعد كيلومترات قليلة خارج مدينة “سراييفو” و بعد ذلك و لمدة يومين حضر التدريبات العسكرية التى أستدعت وجوده في ذلك المكان بينما زارت زوجته “صوفي” المدارس و دور الأيتام و بعد الإنتهاء من تلك الزيارات قرر الإثنان قضاء بعض من الوقت في التجول داخل أسواق المدينة و أثناء وجودهم هناك أجتذبوا حشدًا من المتفرجين بما في ذلك “غافريلو برينسيب ” و كان من الواضح أنه يتم معاملتهم من قبل الجموع بأدب و إحترام .

و بعد مأدبة أقيمت علي شرفه مع الزعماء الدينيين و السياسيين بدء الأرشيدوق “فرانز فرديناند” و زوجته الإستعداد لمغادرة البوسنة و في صباح يوم 28 يونيو أرسل برقية إلى إبنه الأكبر يهنئه على نتائج إمتحاناته الأخيرة ثم أستقل هو و ” صوفي” قطارًا في رحلة قصيرة إلى “سراييفو” و لمرة واحدة سُمح لزوجته بالسير جنبًا إلى جنب معه أثناء تفتيش قصير للقوات و بعد ذلك أستقل الزوجين سيارة مكشوفة في موكب يتجه إلى قاعة المدينة حيث كان من المفترض أن تضم السيارة التي أمامهم ستة ضباط مدربين تدريباً خاصاً و لكن بدلاً من ذلك كان بها ضابط واحد فقط بالإضافة إلى ثلاثة من رجال الشرطة المحليين و كان ذلك يعتبر إهمالا أمنيا جسيما و يزعم أن المسؤولين “النمساويين – المجريين” كان تركيزهم الأكبر علي قوائم العشاء أكثر من التفاصيل الأمنية و مع تحرك الموكب أنتشر سبعة شبان بوسنيين على طول رصيف أبيل و هو شارع رئيسي في المدينة و يوازي نهر ميلياكا و عندما مر الموكب الذي تم الإعلان عن مساره مسبقًا ألقي ” كابرينوفيتش ” قنبلة علي السيارة التى تقل الأرشيدوق ” فرانز فرديناند ” و زوجته ثم شاهدها و هي ترتد من السقف المطوي و تتدحرج تحت السيارة الخطأ و تنفجر و تصيب ظابطين و عدد من المارة و لم يصاب الأرشيدوق و زوجته بأذي و نتيجة فشل ” كابرينوفيتش ” قفز إلى مجرى النهر الجاف و حاول الإنتحار الا أنه تم القبض عليه و زُعم أنه كان يصرخ قائلا “أنا بطل صربي” أثناء إقتياد الشرطة له بعيدًا عن المكان في الوقت الذي كان فيه شابان بوسنيان آخران على الأقل ينظرون جيدًا إلى الأرشيدوق في صمت و بدا من الواضح أنهما فقدا الشجاعة لمحاولة اغتياله .

إغتيال الأرشيدوق فرانز فرديناند

و علي الرغم من ما حدث و بدلا من الفرار الفوري من “سراييفو” قرر الأرشيدوق ” فرانز فرديناند ” الإستمرار في ما هو مخطط له و التوجه إلي قاعة المدينة و بعد الإنتهاء من ذلك أصر على زيارة الضباط المصابين في المستشفى و من أجل ردع أي هجوم أخر محتمل قام الموكب بالسير بسرعات كبيرة و مع ذلك و نتيجة حدوث خطأ في المسار تحولت السيارات الثلاثة الأولى إلى شارع جانبي حيث تصادف أن ” غافريلو برينسيب ” كان يقف فى ذلك المكان و أثناء محاولة السيارات في العودة كان “برينسيب” يشهر مسدسه نحو سيارة الأرشيدوق و يطلق عليها الرصاص من مسافة قريبة مما أدى إلى إصابته في رقبته و إصابة زوجته ” صوفي ” في بطنها و أثناء إحتضاره قال الأرشيدوق ” صوفي .. صوفي .. لا تموتي و إبقي على قيد الحياة من أجل أطفالنا” و في غضون دقائق مات الإثنان و يلقي القبض علي “غافريلو برينسيب ” الذي كان شابا نحيلا يبلغ من العمر 19 عامًا و رفضه يوما الجيش الصربي حيث أعترف بقتله الأرشيدوق ” فرانز فرديناند ” و قال إنه لم يقصد قتل زوجته و مع إنتهاء التحقيقات قدم إلي المحاكمة التى حكمت عليه بالسجن 20 عاما بدلا من الإعدام بسبب صغر سنه بنحو ثلاثة أسابيع و هو ما مكنه من الإفلات من تلك العقوبة لكنه أصيب لاحقا بالسل و توفي بسجنه في أبريل عام 1918 عن عمر يناهز 23 عامًا .

غافريلو برنسيب قاتل الأرشيدوق فرانز فرديناند
غافريلو برنسيب

و نظرا إلي أن قارة أوروبا كانت تعيش بذلك الوقت فى حالة من تصاعد التوترات بين دولها فقد تسبب حادث إغتيال الأرشيدوق ” فرانز فرديناند ” في تسريع وتيرة الصدام بين القوي و بعضها و إندلاع الحرب العالمية الأولي حيث أكتسبت النمسا و المجر دعم ” ألمانيا ” فى إتخاذ إجراءات عقابية ضد “صربيا” و أرسلوا إليها إنذارًا نهائيًا تمت صياغته بطريقة جعلت من الصعب علي أي دولة قبوله و مع ذلك و لمحاولة حل الأزمة أقترحت “صربيا” التحكيم لحل النزاع لكن النمسا-المجر أعلنت الحرب بدلاً من ذلك في 28 يوليو عام 1914 أي بعد شهر بالضبط من وفاة “فرديناند” و بحلول الأسبوع التالي دخلت “ألمانيا” و “روسيا” و “فرنسا” و “بلجيكا” و “الجبل الأسود” و “بريطانيا العظمى” في الصراع و لاحقا انضمت إليهم دول أخرى مثل “الولايات المتحدة” ليخوضوا جميعا حرب ضروس أستمرت لأربعة أعوام قُتل فيها أكثر من 16 مليون شخص ما بين مدنيين و عسكريين .

شارك الموضوع

عمرو عادل

فى الحياة الواقعيه مهندس ميكانيكا قوى اما فى الحياه الافتراضيه فباحث و كاتب و مدير الموقع دا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *