العملية بيبركليب .. البرنامج السري الأمريكى لتجنيد 1600 عالم نازي

كما يحدث عادة فى الحروب انتهت الحرب العالمية الثانية و بدأ الحلفاء المنتصرون فى تجميع الغنائم و تقسيمها على بعضهم البعض و رغم الإتفاق الظاهرى بينهم الا أنه كان يدور فى الكواليس سباق على أشده من أجل الظفر بأعظم الثروات الألمانية التى لم تكن موارد طبيعية أو أسلحة بل كانت متمثلة فى مجموعة من العلماء الذين ساهموا بخبراتهم فى نهضة ألمانيا و هو الأمر الذى أسال لعاب الحلفاء خاصة الولايات المتحدة و الاتحاد السوفيتى أو روسيا حاليا من أجل الإستحواذ عليهم و الإستفادة منهم خاصة مع بداية تشكل خريطة العالم الجديدة و الدخول فى مرحلة الحرب الباردة و هو ما دفع الأمريكيين الى ادارة عملية استخبارية أطلق عليها اسم العملية بيبركليب أو مشبك الورق لجلب أكثر من 1600 عالم نازي إلى الأراضى الأمريكية و منحهم الحصانة بجانب العديد من الإمتيازات مقابل الاستفادة من علومهم .

فنتيجة الجهود المكلفة من حصار “لينينجراد” و الخسائر الفادحة فى معركة “ستالينجراد” فشلت ألمانيا النازية في هزيمة الاتحاد السوفيتي و مع قرب انتهاء الحرب و نضوب موارد الرايخ أصبحت الدولة الألمانية بحاجة ماسة إلى نهج استراتيجي جديد ضد الجيش الأحمر و هكذا في عام 1943 جمعت ألمانيا أصولها الأكثر قيمة و هم العلماء من كافة التخصصات و المهندسين و الفنيين و 4000 خبير للصواريخ و وضعتهم جميعًا معًا في ميناء “بينيموند” في بحر البلطيق شمال ألمانيا للعمل على تطوير استراتيجية دفاع تكنولوجي ضد الروس و كان المهندس و العالم بجامعة هانوفر ” فيرنر أوزنبيرج ” رئيس جمعية أبحاث الدفاع الألمانية هو المسئول عن تحديد العلماء الذين سيتم تجنيدهم و ذلك من خلال إنشاء قائمة شاملة و مدروسة بدقة أطلق عليها اسم ” قائمة أوزنبيرج ” و التى أشترطت أن يكون هؤلاء العلماء من المتعاطفين مع الأيديولوجية النازية أو على الأقل متوافقين معها حتى تتم دعوتهم .

و في هذه الأثناء أصبحت الولايات المتحدة أكثر وعيًا ببرنامج الأسلحة البيولوجية السري للنازيين حيث أدت تلك الاكتشافات الى ذهولها من مدى تطور ذلك البرنامج و قررت وزارة الدفاع الأمريكية ” البنتاجون ” الى التفكير بضرورة الحصول على تلك الأسلحة لأنفسهم و بحلول عام 1945 و عندما بدأ الحلفاء استعادة الأراضي في جميع أنحاء أوروبا بدأوا أيضًا في مصادرة الاستخبارات و التكنولوجيا الألمانية لأنفسهم و خلال ذلك في مارس من ذلك العام اكتشف فني مختبر بولندي قطعًا من “قائمة أوزنبيرج ” تم حشوها على عجل في مرحاض جامعة “بون” و سلمها إلى عملاء المخابرات الأمريكية الذين كانت فى نيتهم أولا القبض على العلماء المحددين في تلك القائمة و استجوابهم في مهمة تسمى عملية “أوفركاست” و لكن عندما اكتشفوا الى أى مدى وصلت التكنولوجيا النازية تغيرت هذه الخطة بسرعة الى جمع و تجنيد هؤلاء الرجال بالإضافة إلى عائلاتهم لمواصلة أبحاثهم لصالح الحكومة الأمريكية .

و هكذا في 22 من مايو عام 1945 غزت قوات الحلفاء منطقة ” بينيموندى ” و ألقت القبض على الرجال الذين كانوا يعملون على صاروخ V-2 و الذي كان بمثابة أول صاروخ باليستي طويل المدى موجه في العالم و أصبح حينها الهدف الأستراتيجى الرئيسى لدى وكالة أهداف المخابرات المشتركة JIOA و مكتب الخدمات الأستراتيجى OSS الذى أصبح لاحقا وكالة المخابرات المركزية الامريكية هو تنفيذ ” العملية بيبركليب ” أو مشبك الورق بعد أن أعطى الرئيس الامريكى ” هارى ترومان ” الضوء الأخضر لها مع وضع شرط عدم تجنيد أي نازيين مؤمنين بذلك الفكر و هو ما وضع تلك العملية فى مأزق نظرا لأن العديد من الرجال الموجودين في “قائمة أوزنبيرج” كانوا متعاطفين مع النازية و هو ما دفعهم الى البحث عن طريق للتحايل حول ذلك الشرط حيث قرروا عدم فحص أي باحث قبل إحضارهم إلى الولايات المتحدة و قاموا بتبييض أو محو أى أدلة إدانة من سجلاتهم .

وثيقة الأمر التنفيذى للرئيس ترومان للبدء فى العملية بيبركليب مع الأشتراط أن يكون العلماء الألمان من ذوى السمعة الحسنة

و في أوائل أغسطس 1945 عرض الكولونيل “هولجر توفتوي” رئيس فرع الصواريخ في قسم البحث و التطوير في ذخائر الجيش الأمريكى عقودًا أولية مدتها عام واحد لعلماء الصواريخ الألمان مع الموافقة على رعاية أسرهم و وافق 127 عالمًا منهم على العرض و سميت العملية بذلك الإسم من قبل ضباط سلاح الذخائر بالجيش الامريكى الذين كانوا يرفقون مشبكًا ورقيًا بمجلدات هؤلاء الخبراء و في سبتمبر من نفس العام وصلت المجموعة الأولى المكونة من سبعة علماء صواريخ من “ألمانيا” إلى “فورت سترونج” في “الولايات المتحدة” ثم انتقلوا في النهاية الى تكساس لاختبار الصواريخ بصفتهم موظفين خاصين في وزارة الحرب و في أوائل عام 1950 تم تنفيذ الإقامة القانونية الأمريكية لبعض المتخصصين الأخرين في ” العملية بيبركليب ” من خلال القنصلية الأمريكية بتشيهواهوا فى “المكسيك” و يدخلوا الى البلاد بشكل قانونى و تم نقل ستة و ثمانون مهندس طيران ألمانى إلى “حقل رايت” الذي حصل على طائرات و معدات نازية اضافة الى استخدام فيلق الإشارة بالجيش الأمريكى 24 متخصصًا من فيزيائيين و مهندسى اليكترونيات ألمان كما استخدم مكتب المناجم الأمريكى سبعة علماء في مجال الوقود الاصطناعي في منشأة “فيشر تروبتش” الكيمائية في لويزيانا بولاية “ميسوري” و في عام 1959 ذهب أربعة وتسعون رجلًا اضافيا من ” العملية بيبركليب ” إلى الولايات المتحدة و يصبح مجموع النازيين الذين غادروا 1600 فرد نازي .

و كان من بين أشهر العلماء الذين تم جلبهم و تجنيدهم في إطار ” العملية بيبركليب ” عالم الصواريخ الألماني الأول “فيرنر فون براون” الذي أجبر سجناء معتقل “بوخنفالد” على العمل في برنامجه الصاروخي حيث مات الكثير منهم من الإرهاق أو الجوع و مع ذلك عند وصوله إلى الولايات المتحدة عام 1945 عمل في مجال الصواريخ في الجيش الأمريكي في “فورت بليس” بولاية “تكساس” حيث أشرف على إطلاق العديد من الرحلات التجريبية للصاروخ V-2 و استمر فى ابحاثه و تدرجاته الوظيفية لينتقل الى وكالة ناسا عام 1960 و الذى ساعدها على إطلاق أول أقمار صناعية بالمدار في 20 من يوليو عام 1969 كجزء من جهود أمريكا للفوز بسباق الفضاء و هو ما اعتبرته الحكومة الأمريكية أنه عقل لا يقدر بثمن لذلك تواطئت فى اخفاء ماضيه و أن يتدرج وظيفيا ليصبح مديرًا لمركز “مارشال” لرحلات الفضاء و نظرا لمجهوداته فى برنامج الفضاء الامريكى كاد أن يُمنح وسام الحرية الرئاسي خلال إدارة “فورد” لولا اعتراضات أحد كبار المستشارين الأمر الذى جعل الرئيس يعيد النظر فى الأمر ثم يعيش باقى حياته فى سلام حتى وفاته .

العالم الألمانى فيرنر فون براون

و بجانب ” براون ” كان يمتلئ تقريبا كل قسم رئيسي في مركز مارشال لرحلات الفضاء بالنازيين السابقين مثل “كورت ديبوس ” الذى كان عضوا سابقا في قوات الأمن الخاصة في ألمانيا النازية و حاليا مدير موقع الإطلاق المعروف الآن باسم مركز “كينيدي” للفضاء اضافة الى “أوتو أمبروس ” الكيميائي المفضل لدى أدولف هتلر و الذى حوكم في “نورمبرج” بتهمة القتل الجماعي و العبودية لكن تم منحه الرأفة من أجل مساعدة جهود استكشاف الفضاء الأمريكية و يعمل لاحقًا مع وزارة الطاقة الأمريكية .

أقرأ أيضا : العملية جولد .. نفق المخابرات الامريكية السري أسفل برلين الشرقية للتجسس على إتصالات السوفييت

و لا يزال الكثير من تاريخ “العملية بيبركليب” غير معروف الا أنه خلال الجزء الأخير من القرن الماضي حاول بعض الصحفيين الكشف عن المزيد حولها لكن طلباتهم للتوثيق غالبًا ما قوبلت بالرفض و لكن تم أخيرًا تلبية بعض الطلبات بالسماح بكشف السرية عن عدد لا يحصى من المستندات حيث أتضح أنه تم محو الفظائع المتعلقة بأعمالهم من قبل عملاء المخابرات الأمريكية و هى أمور أثارت الكثير من الجدل ما بين مدافعين عن تلك العملية و الرافضين لها لأسباب أخلاقية حيث يزعم المدافعين أن الوكالة قد سعت فقط إلى جلب علماء جيدين ولكن هذا كان غير صحيح بشكل واضح عندما ظهرت وثائق جديدة تثبت عكس ذلك و لكن بالعودة الى توقيت تلك العملية فمن الممكن أن تهديد الحرب الباردة قد أقنع بعض القوى الأمريكية بأن منح الرأفة للعلماء النازيين أمر مقبول و رغم أنه قرار صعب الا أنه كان يجب اتخاذه باسم التقدم و مجاراة الخصم .

شارك الموضوع

عمرو عادل

فى الحياة الواقعيه مهندس ميكانيكا قوى اما فى الحياه الافتراضيه فباحث و كاتب و مدير الموقع دا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *