الاتحاد السوفيتي

الاتحاد السوفيتي كان يوما ما دولة عظمي و أمبراطورية مترامية الأطراف ممتدة من بحر البلطيق و البحر الأسود شرقا إلى المحيط الهادئ غربا و تكون من من 15 جمهورية اشتراكية و عاصمته مدينة موسكو و خلال فترة وجوده كان اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية أكبر دولة في العالم من حيث المساحة التى أحتلت سدس مساحة سطح كوكب الأرض تقريبا و كان أيضًا واحد من أكثر الدول تنوعًا حيث عاش فيه أكثر من 100 جنسية متميزة داخل حدوده و مع ذلك فإن غالبية سكانه كانوا يتألفون من السلاف الشرقيين (الروس و الأوكرانيين و البيلاروسيين) الذين شكلوا مجتمعين أكثر من ثلثي إجمالي السكان في أواخر الثمانينيات و تشير الأرقام أنه بين عامي 1946 و 1991 غطى الاتحاد السوفيتي مساحة تمثل سبعة أضعاف الهند و مرتين ونصف من مساحة الولايات المتحدة التى دخل معها حقبة من الصراعات أطلق عليها إسم الحرب الباردة حيث كان على رأس معسكر شرقى يرفع راية الشيوعية فى مقابل معسكر غربي رأسمالي و انتهت تلك الحرب بتفككه الى جمهوريات مستقلة و يحل مكانه دولة روسيا الاتحادية .

و تكون الاتحاد السوفيتي من 15 جمهورية اشتراكية و هم أرمينيا و أذربيجان و بيلاروسيا و إستونيا و جورجيا و كازاخستان و قيرغيزيا و لاتفيا و ليتوانيا و مولدوفا و روسيا و طاجيكستان و تركمانستان و أوكرانيا و أوزبكستان و امتدت مساحته لأكثر من 10900 كيلومتر من الشرق إلى الغرب ليغطي 11 من أصل 24 منطقة زمنية في العالم و كانت أقصى نقطة غربية على بحر البلطيق بالقرب من “كالينينجراد” أما أقصى الشرق فهى “رأس دجنيف” على مضيق “بيرينج” في منتصف الطريق تقريبًا حول العالم اما بالنسبة من الشمال إلى الجنوب فقد امتد لمسافة 4500 كيلومتر من “كيب تشيليوسكين” إلى “كوشكا” على الحدود الأفغانية بالإضافة إلى امتلاكه أطول خط ساحلي في العالم و أطول حدود حيث كان يحده من الشمال المحيط المتجمد الشمالي و من الشرق المحيط الهادئ و من الجنوب “كوريا الشمالية” و “منغوليا” و “الصين” و “أفغانستان” و “إيران” و “تركيا” كما كان يطل على ثلاثة بحار و هم بحر قزوين الذى يعتبر أكبر بحر داخلي في العالم و البحر الأسود و بحر آزوف شبه المحبوسين بالكامل اما فى الغرب فتقع على حدوده “رومانيا” و “المجر” و “تشيكوسلوفاكيا” و “بولندا” و “فنلندا” و “النرويج” .

و خلف الاتحاد السوفيتي الإمبراطورية الروسية القيصرية بعد ثورة عام 1917 حيث تم إنشاء أربع جمهوريات اشتراكية على أراضي الإمبراطورية السابقة و هى الجمهورية الروسية و الجمهورية الاشتراكية السوفيتية عبر القوقاز و الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية الأوكرانية و البيلاروسية و في 30 من ديسمبر عام 1922 أنشأت هذه الجمهوريات التأسيسية اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية مع اضافة الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية التي تم إنشاؤها في السنوات اللاحقة و هم الدولة التركمانية و الأوزبكية و في عام 1924 انضمت تادجيك و بعد خمس سنوات و في عام 1929 اضيفت الجمهورية الكازاخستانية و القيرغيزية و في عام 1936 ألغيت جمهورية القوقاز و قسمت أراضيها بين ثلاث جمهوريات جديدة و هى الجمهورية الأرمينية و الأذربيجانية و الجورجية و في عام 1940 تم تأسيس جمهورية مولودوفا و أستونيا و لاتفيا و كاريلو الفنلندية التى أصبحت جمهورية ذات حكم ذاتي عام 1956 تاركة ما مجموعه 15 جمهورية تحت نظام سياسي سلطوي و مركزي للغاية و هذا ينطبق أيضًا على النظام الاقتصادي الذى كان أساسه الملكية الاشتراكية لوسائل الإنتاج و التوزيع و التبادل و كان اقتصاد البلد بأكمله خاضعًا لسلسلة من الخطط الخمسية التي حددت أهدافًا لجميع أشكال الإنتاج .

و رغم استمرار تلك السياسات على مدار تاريخ الاتحاد السوفيتي الا أنه فى اواخر سنواته فى أواخر الثمانينيات و أوائل التسعينيات من القرن الماضي حدث به تغيرات جذرية سياسية و اقتصادية باعتماده على سياستي البرسترويكا أى “إعادة الهيكلة” و الجلاسنوست أى “الانفتاح” فمن ناحية الجانب الاقتصادي كان لابد من استبدال الاقتصاد الموجه بالإدخال التدريجي لعناصر اقتصاد السوق و هو تغيير ثبت أنه من الصعب تحقيقه و رافقه انخفاض الإنتاج في العديد من القطاعات و زيادة فى مشاكل التوزيع أما على الصعيد السياسي فقد استبدلت التعديلات الدستورية في عام 1988 مجلس السوفيت الأعلى القديم بمجلس نواب الشعب و كان المؤتمر الجديد يضم 2250 عضوًا تم انتخاب ثلثهم على أساس الدوائر الانتخابية و مثل الثلث الاخر الأقاليم السياسية أما الثلث المتبقي جاء من المنظمات الاجتماعية النقابية مثل النقابات العمالية و الحزب الشيوعي و أكاديمية العلوم و تم تقدم الناخبين لاختيار المرشحين و انتخب العديد من غير الشيوعيين و انتخب مجلس نواب الشعب مجلس السوفيت الأعلى الجديد المكون من 542 عضوًا و اختار أيضًا رئيس تلك الهيئة الذي كان من المقرر أن يكون الرئيس التنفيذي لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية كما تم تأسيس مجالس نواب الشعب في كل جمهورية و منذ عام 1989 نشأت صراعات بين برلمان الاتحاد السوفيتي و تلك الخاصة بالجمهوريات الفردية حول سلطات كل من المركز (حكومة الاتحاد السوفيتي) و الجمهوريات و تفاقمت هذه الصراعات بسبب عودة القومية العرقية و زيادة المطالب بالحكم الذاتي و حتى الاستقلال الكامل و بعد الانقلاب الفاشل في أغسطس 1991 لعزل ” ميخائيل جورباتشوف ” و الذي تورط فيه الحزب الشيوعي السوفييتي مع المخابرات السوفيتية KGB تم إلغاء الحزب نفسه .

و بحلول ديسمبر عام 1991 لم يعد الاتحاد السوفيتي موجودًا تقريبًا و كان مستقبل أراضيه وشعوبه غير مؤكد حيث حصلت ثلاث جمهوريات و هم “إستونيا و لاتفيا و ليتوانيا” على استقلال كامل و تم الاعتراف بهم دوليًا كدول ذات سيادة و طالبت باقى الدول بالاستقلال و بذلت محاولات بقيادة “ميخائيل جورباتشوف” رئيس الاتحاد السوفيتي لإنشاء اتحاد دول ذات سيادة مع درجة معينة من التكامل في السياسة الخارجية و الدفاع و الشؤون الاقتصادية لكن الاتفاق بين الجمهوريات الـ 12 المتبقية لم يكن كذلك و بغض النظر عن الموقف القانوني بدأت تلك الجمهوريات التصرف كما لو كانت دولًا ذات سيادة و تتفاوض مع بعضها البعض متجاوزة الحكومة المركزية و تُوجت هذه العملية في 8 من ديسمبر عام 1991 بالتوقيع على اتفاقية بين الجمهوريات السلافية الثلاث “روسيا و أوكرانيا و بيلاروسيا ” لتأسيس كومنولث الدول المستقلة مع سياسة مشتركة متفق عليها للشؤون الخارجية و الدفاع و جاء اتحاد الدول المستقلة فيما بعد ليشمل جميع الجمهوريات المتبقية باستثناء “جورجيا” و لكن واجهت صعوبة كبيرة في التوصل إلى سياسات متفق عليها و هكذا ظل المستقبل غير مؤكد و أصبح الاتحاد السوفيتي لم يعد موجودًا كواقع جيوسياسي .

الثورة الروسية

روسيا القيصرية المتأخرة

في وقت ما في منتصف القرن التاسع عشر دخلت “روسيا” مرحلة أزمة داخلية بلغت ذروتها في عام 1917 بالثورة التى لم تكن أسبابها اقتصادية أو اجتماعية بقدر ما كانت سياسية و ثقافية فمن أجل الاستقرار أصرت القيصرية على استبداد صارم يمنع السكان فعليًا من المشاركة في الحكومة و في الوقت نفسه و من أجل الحفاظ على مكانتها كقوة عظمى عززت التنمية الصناعية و التعليم العالي و كانت النتيجة توترًا دائمًا بين الحكومة و المجتمع لا سيما المثقفين كما كان من بين الأسباب الاجتماعية و الاقتصادية للانهيار النهائي للقيصرية الاكتظاظ السكاني في المناطق الريفية الأكثر أهمية حيث كانت لروسيا القيصرية أعلى معدل للنمو الديموغرافي في أوروبا و في النصف الثاني من القرن التاسع عشر زاد عدد سكان الريف بأكثر من 50 في المائة و كان من المحتمل أن يزعزع ذلك الاستقرار بعد رفض الفلاحين الروس الاعتراف بمبدأ الملكية الخاصة للأرض و في أواخر القرن التاسع عشر حدث صراع سياسي بين القيصرية و الفلاحين مع الطبقة العاملة و المثقفين حيث كان القيصر لديه سلطات مطلقة و لا تخضع لقيود دستورية و لا لمؤسسات برلمانية و حكم بمساعدة طبقة بيروقراطية لا تخضع لضوابط خارجية و فوق القانون اضافة الى الجيش الذي كانت إحدى مهامه الرئيسية الحفاظ على النظام الداخلي و طورت الإمبراطورية الروسية إلى حد كبير شرطة أمنية قوية و منتشرة في كل مكان.

و بالنسبة الى الفلاحين كانوا يمثلون 80% من سكان الإمبراطورية و عاشت الغالبية العظمى منهم في الكوميونات التي كانت تمتلك الأرض بشكل مشترك حيث لم يكن الفلاحين يمتلكون أراضيهم بل قاموا بزراعتها فقط لفترة من الزمن تحددها الأعراف المحلية لذلك فهم سياسياً كانوا يميلون نحو اللاسلطوية البدائية أما المثقفين سواء كانوا ليبراليين أو راديكاليين في كلتا الحالتين كانوا يعارضون بشكل ثابت الوضع الراهن و حاول المثقفون الراديكاليين في ستينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر تحريك الفلاحين و العمال و دفعهم إلى التمرد و لكن بعد أن لم يلقوا أي استجابة تبنوا أساليب الإرهاب التي بلغت ذروتها في عام 1881 باغتيال الإمبراطور “ألكسندر الثاني” و ردت الحكومة بإجراءات قمعية أبقت الثوار في مأزق طوال العقدين التاليين و في غضون ذلك تُرك المجال للمثقفين الليبراليين الذين شكلوا في يناير عام 1904 اتحاد التحرير و هو هيئة سياسية شبه قانونية ملتزمة بالنضال من أجل الديمقراطية حيث حصلت الجماعات المعارضة على فرصتها في 1904-1905 عندما انخرطت “روسيا” في حرب مع “اليابان” و بسبب أن الحرب سارت بشكل سيء منذ البداية فقد أدى ذلك إلى انخفاض هيبة النظام في أعين الناس و قدم اتحاد التحرير برنامجًا للإصلاحات السياسية الأساسية و في يناير عام 1905 و في أعقاب مذبحة مظاهرة عمالية حملت عريضة صاغها اتحاد التحرير انفجرت البلاد في حالة تمرد و وصلت إلى ذروتها فى أكتوبر و من أجل مواجهة إضراب عام أصدر الإمبراطور “نيكولاس الثاني” بيانًا وعد البلاد ببرلمان تشريعي و في العام التالي تم وضع دستور لروسيا و جرت الانتخابات لهيئة تمثيلية و هو مجلس الدوما و حصل السكان على ضمانات للحريات المدنية الأساسية و ألغيت الرقابة .

و خلال الفترة بين عامي 1906 و 1911 كانت روسيا تحت إدارة أعظم رجل دولة في أواخر العصر الإمبراطوري و هو “بيوتر ستوليبين” الذى قام بتنفيذ إصلاحات واسعة النطاق كان أهمها قوانين تسمح للفلاحين بإنشاء مزارع مستقلة حيث كان يأمل في خلق حالة من الاعتماد على الذات للعمل كقوة استقرار في الريف و كان لديه أيضًا إصلاحات اجتماعية و سياسية أخرى في الاعتبار الا انه قُتل على يد ثائر عام 1911 و خلال تلك السنوات تمتعت “روسيا” في العقد الأخير بحرية أكبر من أي وقت مضى و تمتعت أيضًا بالازدهار النسبي حيث كانت أكبر منتج للبترول و مصدر للحبوب في العالم خلال الحرب العالمية الأولى و تحسنت الظروف في الريف تدريجياً و في عام 1916 امتلك الفلاحين أو استأجروا 90 في المائة من الأراضي الصالحة للزراعة .

ثورة فبراير

ضعفت الحرب العالمية الأولى القيصرية و أدت الهزائم المهينة التي عانى منها الجيش الروسي على يد “ألمانيا” إلى خفض هيبة النظام الملكي أكثر مما كانت و تواترت شائعات لا أساس لها بأن الإمبراطورة “ألكسندرا” و هي ألمانية الأصل قد أعطت أسرارًا عسكرية للعدو و بدلاً من أن تلتف المعارضة خلف التاج استغلت الصعوبات التي تواجهها لانتزاع المزيد من المكتسبات و المزايا لتكون في وضع يسمح لها بتولي زمام الأمور بمجرد انتهاء الحرب و من جانبها تشبثت الحكومة بكل صلاحياتها خوفًا من أن إشراك الشخصيات العامة في المجهود الحربي سيجعل من المستحيل إعادة تأكيد السلطة القيصرية القوية بمجرد إعادة إحلال السلام و لم تشهد أي دولة محاربة أخرى صراعات سياسية بشكل مكثف أثناء الحرب كما هو الحال في “روسيا” مما منع التعبئة الفعالة لأسباب عدة أهمها عدم تنظيم الإمدادات الغذائية رغم أن “روسيا” تنتج ما يكفيها لإطعام نفسها إلا أن سوء الإدارة الاقتصادية إلى جانب انهيار وسائل النقل أدى في السنة الثالثة من الحرب إلى ارتفاع حاد في الأسعار و نقص الغذاء في المدن.

و بدأ الهجوم الأخير على الملكية في نوفمبر 1916 عندما أشار رئيس الحزب الديمقراطي الدستوري الليبرالي “بافيل ميليوكوف” خلال جلسة لمجلس الدوما إلى أن الحكومة مذنبة بالخيانة و خلال شتاء 1916-1917 القاسي بشكل استثنائي استمرت شحنات الطعام و الوقود إلى المدن الكبرى في الانخفاض و أدى عدم الرضا عن سلوك الحكومة في الحرب إلى جانب المصاعب الاقتصادية في أواخر فبراير عام 1917 إلى اندلاع موجة من الغضب الشعبي و الذى بدأ بتمرد حامية بتروجراد التي يعمل بها جنود الاحتياط المتقاعدون و منهم انتشر إلى الأحياء الصناعية دفعت “نيكولاس الثاني” الذي أقنعه جنرالاته بأنه و زوجته كانا العقبة الرئيسية أمام النصر الى التنازل عن العرش و التى كانت خطوة أدت الى التفكك السريع للبلاد حيث حدث خلل و تضارب فى السلطات و سرعان ما أدى نظام “السلطة المزدوجة” إلى حالة من الفوضى في البلاد حيث استولى الفلاحون على الأرض و هجر الجنود القوات المسلحة و طالبت الأقليات العرقية بالحكم الذاتي.

القيصر نيكولاس الثاني

لينين والبلاشفة

منذ بداية القرن العشرين كانت هناك ثلاثة أحزاب ثورية رئيسية في “روسيا” أبرزها “الحزب الاشتراكي الثوري” الذي كانت قاعدة دعمه الأساسية هم الفلاحين و لجأ إلى الإرهاب السياسي في العقد الأول من القرن حين قام اعضاءه باغتيال الآلاف من المسؤولين الحكوميين على أمل إسقاط الحكومة بهذه الطريقة بينما اعتقد “حزب الديمقراطيين الاشتراكيين” و هو حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي أن مثل هذا الإرهاب لا طائل من ورائه و اتبعوا المذاهب الكلاسيكية لـ “كارل ماركس و فريدريك إنجلز” التى تقول ان تطور الرأسمالية ستؤدى الى خلق بروليتاريا راديكالية من شأنها أن تتسبب في الوقت المناسب بثورة و تدخل الاشتراكية لتحل محلها و انقسم الحزب في عام 1903 إلى فصيلين سرعان ما تطوروا إلى حزبين منفصلين حيث ركز “المناشفة” الموالون للتعاليم الاشتراكية الديمقراطية التقليدية على تطوير العلاقات مع العمال و رفضوا الثورة السياسية المبكرة في “روسيا ” الزراعية التي كانت إلى حد كبير ما قبل الرأسمالية بينما كان “البلاشفة” الذين كانوا أقرب إلى الاشتراكيين الثوريين من بعض النواحي يعتقدون أن “روسيا” مستعدة للاشتراكية و كان زعيمهم “فلاديمير إيليتش لينين” ثوريًا متعصبًا و تمكن من تنظيم حزب صغير نسبيًا و لكنه مخلص تمامًا و منضبط للغاية و كان عازم على الاستيلاء على السلطة و نظرا لقناعاته بأن العمال وحدهم لا يستطيعون التقدم إلى ما بعد النقابات العمالية السلمية لذلك فقد أراد أن يوجه الطبقة العاملة الى الطريق الثوري .

فلاديمير لينين

و خلال الحرب العالمية الأولى كان “لينين ” الذي كان يعيش في “سويسرا” المحايدة متحمسًا لهزيمة “روسيا” و جذب هذا انتباه الألمان الذين أدركوا أنهم لا يستطيعون كسب الحرب ما لم ينجحوا بطريقة ما في إجبار “روسيا” على توقيع اتفاق سلام منفصل و في أبريل عام 1917 رتبوا عبور “لينين” عبر “ألمانيا” إلى “السويد” و من ثم إلى “روسيا” حيث كانوا يأملون أن يعمل البلاشفة على إثارة المشاعر المناهضة للحرب و لهذه الغاية زودوا “لينين” بسخاء بالمال اللازم لتنظيم حزبه وبناء صحافة تابعة له و الذى بمجرد وصوله استشعر بضعف الحكومة المؤقتة و عدم الاستقرار فى مفاصل الدولة و فى 3 من أبريل عام 1917 أراد إطلاق ثورة على الفور رغم ان أتباعه شككوا في نجاحها و كانت رؤيتهم بالفعل صحيحة عندما أخفق الانقلاب الذي قاده البلاشفة بشكل سيئ في يوليو 1917 رغم أنهم كادوا أن يحققوا النجاح و لكن قامت الحكومة بنشر معلومات عن تعاملات “لينين” مع الألمان مما تسبب في قيام القوات الروسية الغاضبة بتفريق المتمردين و إنهاء الانتفاضة و بعد تخليه عن أتباعه لجأ “لينين” إلى “فنلندا” .

و بعد اجهاض الانتفاضة البلشفية انتقلت رئاسة الحكومة المؤقتة إلى “كيرينسكي” المحامي الاشتراكي الثوري و نائب رئيس مجلس الدوما و أكثر الراديكاليين شهرة في البلاد بسبب دفاعه عن السجناء السياسيين و خطاباته النارية المناهضة للحكومة و كان يشتهر بأنه متحدث رائع لكنه يفتقر إلى الحكمة لتحقيق طموحاته السياسية حيث قرر أن التهديد الوحيد الذي تواجهه الديمقراطية الروسية يأتي من اليمين و كان يقصد بذلك العناصر المدنية و العسكرية المحافظة و التي كان رمزها الأكثر وضوحًا هو الجنرال “لافر كورنيلوف” و هو ضابط وطني عين قائداً عاماً للقوات المسلحة لكنه سرعان ما أصبح يعتبره منافساً و لكسب دعم السوفييت لم يقاضي البلاشفة بسبب انقلاب يوليو و سمح لهم بالخروج سالمين من الكارثة حيث بدء ” كيرنسكي ” فى التدبير للاطاحة بخصمه ” كورنيلوف ” و الذى أبلغه سرًا أن البلاشفة كانوا يخططون لانقلاب آخر في “بتروجراد” في أوائل سبتمبر و هذا لم يكن صحيحًا في الواقع و طلب منه إرسال قوات لقمعهم و عندما فعل “كورنيلوف” ما أمر به اتهمه “كيرينسكي” بالرغبة في الإطاحة بالحكومة و اتهامه بالخيانة العظمى و تمرد “كورنيلوف” و لكن تم سحق التمرد بسهولة و رغم انتصار ” كرينسكى ” الا ان ما فعله أدى إلى نفور الضباط الذين كان بحاجة إلى دعمهم في الصراع الذي يلوح في الأفق مع البلاشفة الذين بدأوا في أواخر سبتمبر و أكتوبر في كسب الأغلبية من عامة الشعب و أصبح “ليون تروتسكي” الذي تحول مؤخرًا إلى البلشفية رئيسًا لاتحاد بتروجراد السوفيتي و هو الأهم في البلاد وحوله على الفور إلى وسيلة للاستيلاء على السلطة .

الانقلاب البلشفي

استحقت أحداث فبراير عام 1917 تسميتها بالثورة لأنها كانت في الأساس عفوية و على النقيض من ذلك كانت احداث أكتوبر عام 1917 انقلابًا كلاسيكيًا نفذته مجموعة صغيرة من المتآمرين حيث اتخذت اللجنة المركزية البلشفية قرار الاستيلاء على السلطة في اجتماع سري عقد ليلة 10 أكتوبر و كانت هناك خلافات كبيرة حول التوقيت حيث أراد “لينين” تنفيذ الانقلاب على الفور و فضل “تروتسكي” و معظم الآخرين عقد مؤتمر وطني للسوفييت مليء بالبلاشفة و أعلان الإطاحة بالحكومة المؤقتة و تم التوصل إلى حل وسط و هو سيحدث الانقلاب في أقرب وقت ممكن و سيصدق عليه كونجرس السوفييت و عاد “لينين” إلى مخبئه تاركًا اتجاه الانقلاب في أيدي “تروتسكي” .

و بغض النظر عن سلطة اللجنة التنفيذية المركزية للسوفييت التي كان يهيمن عليها من قبل المناشفة و الاشتراكيين الثوريون دعا البلاشفة السوفييتات المحلية التي يتمتعون فيها بأغلبية لحضور مؤتمر وطني يبدأ في 25 أكتوبر و في غضون ذلك قاموا ببناء قوة مسلحة للقيام بانقلاب و تم تسهيل المهمة من خلال قرار السوفييت بتشكيل لجنة عسكرية ثورية لتنظيم دفاع مدينة “بتروجراد” من هجوم ألماني متوقع و نظرًا لأن البلاشفة كانوا المنظمة الوحيدة التي لديها قوة مسلحة مستقلة فقد استولوا على اللجنة العسكرية الثورية و استخدموها للإطاحة بالحكومة و في ليلة 24-25 أكتوبر احتل الحرس الأحمر البلشفي النقاط الإستراتيجية في “بتروجراد” و في صباح يوم 25 أكتوبر عاد ” لينين ” من مخبئه و أصدر إعلانًا باسم اللجنة العسكرية الثورية بأن الحكومة المؤقتة قد أطيح بها و أن السوفييتات قد تولت كل السلطة و لم يشر الإعلان إلى البلاشفة و لا إلى الاشتراكيين و لهذا السبب لم يكن لدى سكان المدينة أدنى فكرة عن مدى عمق التغيير و من ناحيته حاول “كيرينسكي” حشد القوات المسلحة لإنقاذ حكومته لكنه لم يجد أي رد فعل بين الضباط الغاضبين من معاملته لكورنيلوف و في 26 من أكتوبر أكد الكونجرس السوفييتي نقل السلطة و أصدر العديد من المراسيم التي قدمها إليه “لينين” و شكلت حكومة مؤقتة جديدة برئاسته و كان من المقرر أن تدير حتى انعقاد الجمعية التأسيسية و في “موسكو” واجه الانقلاب البلشفي مقاومة مسلحة من الطلاب العسكريين و المدنيين و لكن تم التغلب عليهم في النهاية و في مدن “روسيا” الأخرى سحق الجنود الذين اجتذبتهم الشعارات البلشفية المعارضة و تم تسهيل المسيرة إلى السلطة من خلال تناقض المناشفة و الاشتراكيين الثوريين الذين على الرغم من معارضتهم لانقلاب أكتوبر كانوا يخشون من ثورة يمينية مضادة أكثر من البلشفية .

الديكتاتورية البلشفية

لينين و تروتسكي

على الرغم من أن “لينين” و “تروتسكي” نفذا انقلاب أكتوبر باسم السوفيتات إلا أنهما كانا يعتزمان منذ البداية تركيز كل السلطة في أيدي الأجهزة الحاكمة للحزب البلشفي حيث أعطى الترتيب الجديد النموذج الأولي لجميع الأنظمة الشمولية الا و هى السيادة الفعلية في أيدي منظمة خاصة تسمى “الحزب” و ان كان بشكل غير مباشر فمن خلال مؤسسات الدولة شغل البلاشفة مناصب قيادية في الدولة و لا يمكن اتخاذ قرارات ولا تمرير أي قوانين دون موافقتهم و كانت الأجهزة التشريعية المتمركزة في السوفيتات مجرد أوامر بلشفية مختومة بالمطاط و كان جهاز الدولة يرأسه مجلس وزراء يسمى مجلس مفوضي الشعب (سوفناركوم) برئاسة “لينين” و جميع أعضائه من نخبة الحزب.

و التزم البلاشفة رسمياً بعقد و احترام إرادة الجمعية التأسيسية التي كان من المقرر انتخابها في نوفمبر 1917 و إدراكًا منهم أنه ليس لديهم فرصة للفوز بأغلبية فقاموا بالمماطلة تحت ذرائع مختلفة و لكنهم سمحوا في النهاية بإجراء الانتخابات و أعطت النتائج أغلبية (40.4٪) للاشتراكيين الثوريين و حصل البلاشفة على 24% و سمحوا للجمعية بالاجتماع ليوم واحد ثم أغلقوها حيث كان ذلك بمثابة بداية الديكتاتورية البلشفية بعد اغلاقهم أول هيئة تشريعية وطنية منتخبة ديمقراطيا في التاريخ الروسي و في الأشهر التي تلت ذلك تم حظر الأحزاب و إغلاق الصحف و المجلات غير البلشفية و قمع كل معارضة علنية من قبل الشرطة السرية الجديدة ” تشيكا ” التي مُنحت سلطة غير محدودة لدرجة توقيف و إطلاق النار على أى شخص وفقًا لتقديرها فى حال إشتباهها فى وجود معادين للثورة حتى “اتحاد الفلاحين” الذي يمثل أربعة أخماس سكان البلاد و الذي عارض انقلاب أكتوبر تم تخريبه من الداخل واستبداله بمنظمة أنشأها و يديرها البلاشفة و في مارس عام 1918 تم تغيير اسم الحزب البلشفي إلى الحزب الشيوعي الروسي من أجل تمييزه عن الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في “روسيا” و أوروبا و فصل أتباع “لينين” عن أولئك المنتمين إلى الأممية الاشتراكية غير الثورية و يدار من قبل لجنة مركزية .

و كان إنهاء الحرب مع القوى المركزية من أهم أولويات “لينين” للوصول إلى السلطة حيث خشي أن يسقط الجنود الروس الحريصون على العودة إلى ديارهم نظامه إذا استمر في الحرب و كان يعتقد أن الهدنة على الجبهة الشرقية ستؤدي إلى تمردات و إضرابات في الغرب بشكل يمكن البلاشفة من الإستيلاء على السلطة هناك لذلك و فور الاستيلاء على السلطة اقترح البلاشفة على البلدان المتحاربة إنهاء القتال و وافق الألمان و النمساويين على الفور و في المفاوضات التي جرت في “بريست ليتوفسك” تم ترتيب هدنة تبعها معاهدة سلام و مع ذلك فرض الألمان شروطا قاسية للغاية مما تسبب في حدوث انقسام في القيادة العليا للبلشفية حيث فضل “لينين” قبول أي شروط يقدمها الألمان لكن غالبية مساعديه و بحجة أن هذا سيعني خيانة الطبقة العاملة الألمانية رفضوا ذلك و لكن انتصرت رؤية ” لينين ” بعد تهديده بالاستقالة و عقد سلام رسمي مع الحكومة الألمانية و كانت شروط معاهدة “بريست-ليتوفسك” الموقعة في 3 مارس 1918 مرهقة للغاية حيث فقدت “روسيا” الأراضي التي يسكنها أكثر من ربع مواطنيها و توفر أكثر من ثلث محصول الحبوب كما أعفى مواطني و شركات القوى المركزية من قرارات التأميم السوفيتي و لكن فى المقابل أنقذت المعاهدة النظام البلشفي خلال الأشهر الثمانية التالية و تلقت دعمًا دبلوماسيًا و ماليًا حاسمًا من “ألمانيا” مكنها من هزيمة المعارضين السياسيين .

و حتى إبرام معاهدة “بريست ليتوفسك” قدم الحلفاء مبادرات ودية للبلاشفة و تقديم وعود بالمساعدة العسكرية و الاقتصادية لمنع المصادقة عليها لأن تلك المعاهدة كانت بمثابة كارثة عليهم لأنه حرر الألمان و اتاح لهم نقل مئات الآلاف من القوات من الجبهة الشرقية إلى الغرب مما مكنهم من تحقيق الاختراق الذي استعصى عليهم حتى الآن و بمجرد انسحاب “روسيا” من الحرب حاول الحلفاء يائسين إعادة تنشيط الجبهة الشرقية مستخدمين لهذا الغرض الفيلق التشيكوسلوفاكي المكون من أسرى حرب سابقين و قوات يابانية و وحدات صغيرة من قواتهم الخاصة التي هبطت في مدن الموانئ الشمالية “مورمانسك و أرخانجيلسك” لكن هذه الجهود باءت بالفشل و دفعت البلاشفة المحاصرين إلى الاقتراب أكثر من أحضان “ألمانيا” في معاهدة تكميلية تم توقيعها في 27 أغسطس عام 1918 و التى لم تمنح “روسيا” حقًا اقتصاديًا إضافيًا لألمانيا على أراضيها فحسب بل حصلت على تعهدات بأن القوات الألمانية ستتدخل لطرد قوات الحلفاء من أراضيها و سحق ما يسمى بالجيوش البيضاء التي تشكلت في جنوب “روسيا” الا ان تلك المعاهدات أصبحت غير مؤثرة بسبب استسلام “ألمانيا” في نوفمبر عام 1918 بموجب شروط معاهدة فرساي حيث كان عليها أن تتخلى عما اكتسبته في “بريست ليتوفسك” .

شيوعية الحرب

بعد بضعة أشهر من وصوله إلى السلطة بدأ النظام الروسي الجديد سلسلة من الإجراءات غير المسبوقة التي تهدف إلى تدمير جميع بقايا الملكية الخاصة و تدشين اقتصاد شيوعي مركزي و كان لهذه الإجراءات التي أطلق عليها عام 1921 اسم “شيوعية الحرب” اهداف عدة أهمها اعتقاد البلاشفة أن تأميم وسائل الانتاج الخاصة تقوض المعارضة و أن الاقتصاد المركزي بطبيعته أكثر كفاءة من الاقتصاد الرأسمالي لذلك تضمنت “شيوعية الحرب” أربع مجموعات من الإجراءات و هم (1) تأميم جميع وسائل الإنتاج و النقل (2) إلغاء النقود و استبدالها برموز المقايضة و كذلك السلع و الخدمات المجانية (3) فرض على الاقتصاد الوطني خطة واحدة (4) إدخال العمل الإجباري , لذلك في السنة الأولى من النظام الجديد تم تأميم جميع المؤسسات الصناعية باستثناء أصغرها و كانت الأرض الزراعية المصدر الرئيسي للثروة الوطنية في الوقت الحالي تُترك تحت تصرف الكوميونات الفلاحية على أساس أنه سيتم تجميعها عاجلاً أم آجلاً و ألغيت الملكية الخاصة للعقارات الحضرية و كذلك الميراث و أصبحت الدولة (أي الحزب البلشفي في الواقع) المالك الوحيد لأصول الدولة المنتجة و المدرّة للدخل وقد أوكلت إدارة هذه الثروة إلى منظمة بيروقراطية عملاقة و هي المجلس الأعلى للاقتصاد الوطني الذي كان يتولى تخصيص الموارد البشرية و المادية بأكثر الطرق عقلانية .

و تم تدمير الأموال بشكل فعال من خلال الطباعة غير المقيدة للأوراق النقدية مما أدى كما هو مقصود إلى تضخم غير عادي و بحلول يناير عام 1923 زادت الأسعار في “روسيا” السوفيتية مقارنة بعام 1913 100 مليون مرة و كان المواطنين العاديين إلى جانب الأغنياء فقدوا مدخراتهم و قد حلت المقايضة و كان على جميع المواطنين البالغين العمل أينما طلب و تم إلغاء استقلال النقابات العمالية و حظر الحق في الإضراب ضد الشركات المؤممة .

و كانت إحدى أشد المشاكل التي واجهت النظام الجديد هي توفير الخبز و المواد الغذائية الأخرى للمدن و الجيش الأحمر المشكل حديثًا لأن الفلاحين كانوا غير مستعدين لبيع منتجاتهم مقابل نقود سريعة الاستهلاك لذلك حل “لينين” المشكلة من خلال أساليب شديدة الوحشية و غير منتجة في نهاية المطاف و أمر الفلاحين بتسليم كل الفائض من الحبوب إلى أجهزة الدولة بأسعار لا علاقة لها بقيمتها الفعلية و للتغلب على مقاومة الفلاحين تم إرسال مفارز الاستيلاء المسلحة بمساعدة وحدات الجيش النظامي إلى القرى لاستخراج الطعام و قد أطلق على الفلاحين الذين قاوموا عمليات المصادرة هذه “الكولاك” (الكولاك هي الكلمة الروسية التي تعني “القبضة”) حيث أدت سياسة الاستخراج القسري إلى حرب أهلية منتظمة أودت بحياة آلاف لا تحصى من كلا الجانبين الا أنها أرست القواعد السياسية للنظام الجديد في الريف الذي ظل خارج السيطرة بالكامل تقريبًا .

و مع حلول صيف عام 1918 كانت شعبية البلاشفة في أدنى مستوياتها حيث لم يكن عليهم فقط أن يتعاملوا مع الفلاحين المتمردين و الجيوش البيضاء المعادية التي يدعمها الحلفاء و لكنهم فقدوا الدعم الذي حصلوا عليه من العمال و هُزِموا في كل مكان من قبل الأحزاب الاشتراكية المتنافسة و تعاملوا مع تلك المشكلة بطرد الاشتراكيين الثوريين و المناشفة من السوفييتات و إجبارهم على إعادة انتخابهم حتى حصلوا على الأغلبية المطلوبة و دفعهم تزايد عدم شعبيتهم إلى اللجوء إلى الإرهاب الجامح و نفذت ” تشيكا ” عددًا من عمليات الإعدام بإجراءات موجزة في النصف الأول من عام 1918 و في يوليو و بناءً على أوامر “لينين” قُتل القيصر السابق و عائلته بأكملها في قبو منزل في “يكاترينبورج” حيث كانوا محتجزين و بدأ “الإرهاب الأحمر” الرسمي في سبتمبر 1918 و كانت الذريعة لكل ذلك هى محاولة شبه ناجحة لاغتيال “لينين” من قبل الاشتراكي الثوري “فاني كابلان” و الذى بمجرد تعافيه أمر بتنفيذ عمليات إعدام جماعية للمعارضين المشتبه بهم و إطلاق النار على آلاف السجناء السياسيين المحتجزين دون توجيه تهم إليهم و لمنع المزيد من المحاولات لاغتياله و حياة شركائه أرسى “لينين” ممارسة أخذ الرهائن من بين مسؤولي النظام القديم و المواطنين الميسورين و الذين كانوا من المقرر إعدامهم كلما تطلبت مصالح الدولة ذلك و تشير التقديرات الى أن المذابح الناجمة عن تلك السياسة قد أسفرت عن ما يقدر بنحو 140،000 ضحية .

الحرب الأهلية وقيام الاتحاد السوفيتي

دارت الحرب الأهلية بالمعنى العسكري على عدة جبهات حيث تشكلت القوة البيضاء الأولى المعروفة باسم “جيش المتطوعين” في شتاء عام 1917-1918 في المناطق الجنوبية التي يسكنها القوزاق و نظمه الجنرالات “ميخائيل أليكسييف و كورنيلوف” و بعد وفاتهم استولى عليها الجنرال “أنطون دينيكين” و تم إنشاء جيش آخر في غرب “سيبيريا” و في نوفمبر عام 1918 تولى الأدميرال “ألكسندر كولتشاك” قيادة هذا الجيش وأصبح ديكتاتور المناطق التي انتشر فيها و ظهرت عدة جيوش بيضاء أصغر في الشمال الغربي و الشمال و الشرق الأقصى و كانت جميعها تأخذ دعم متفاوت من “المملكة المتحدة” سواء كان بالمال و العتاد الحربي حيث كان تدخل الحلفاء مستوحى في البداية من الرغبة في إعادة تنشيط الجبهة الشرقية و لكن بعد الهدنة فقدت غرضها الواضح و رغم ذلك أستمر و بإصرار “ونستون تشرشل” فى دعم تلك القوات بعد أن رأى في البلشفية تهديدًا دائمًا للديمقراطية و السلام العالمي حيث لم تشترك الوحدات الأمريكية و لا الفرنسية على الأراضي الروسية في القتال وتم سحبها بعد الهدنة و بقي البريطانيين حتى خريف عام 1919 و خاضوا قتالًا عرضيًا و لكنهم قدموا المساعدة بشكل أساسي للجيوش البيضاء.

و فى المقابل كان البلاشفة بطيئين في تشكيل جيش محترف إلى حد كبير لأنهم كانوا يخشون أن يوفر ذلك أرضًا خصبة للثورة المضادة لذلك اعتمدوا في البداية بشكل أساسي على الثوار و المتطوعين من “لاتفيا” لكن في خريف عام 1918 و بعد أن عانوا من الهزائم على يد التشيكيين الموالين للحلفاء و المعادين لألمانيا قرروا المضي قدمًا في تشكيل جيش نظامي مؤلف من المجندين و أسندت قيادة القوات و صياغة القرارات الإستراتيجية إلى ضباط محترفين في الجيش القيصري السابق و تم تجنيد حوالي 75000 منهم و لمنع الانشقاقات و التخريب كانت أوامر هؤلاء الضباط تخضع لموافقة المفوضين السياسيين البلاشفة المعينين لهم و تم التعامل مع عائلات الضباط كرهائن و في ذروة الحرب الأهلية كان عدد الجيش الأحمر قرابة خمسة ملايين رجل و تم تكليف “تروتسكي” بالقيادة العامة لهذه القوة كمفوض للحرب و رئيس مجلس الحرب الثوري لكن جميع القرارات العملياتية تم اتخاذها من قبل ضباط محترفين معظمهم أعضاء سابقون في هيئة الأركان العامة الإمبراطورية حيث وقعت المعارك الحاسمة للحرب الأهلية في صيف و خريف عام 1919 و أطلق “كولتشاك” في الربيع حملة على “موسكو” و اقترب من شواطئ نهر “الفولجا” عندما أوقفته قوة حمراء متفوقة عدديًا و تمت هزيمته و تفكك جيشه في وقت لاحق من العام و تم أسره وإطلاق النار عليه دون محاكمة ربما بناءً على أوامر “لينين” فى فبراير عام 1920 .

و من بين كل الجنرالات البيض اقترب “دنيكين” من تحقيق النصر و في أكتوبر 1919 وصل جيشه التطوعي و المعزز بالمجندين إلى أوريل على بعد 250 كيلومترًا جنوب “موسكو” و خلال تقدمهم نفذ القوزاق في الخدمة البيضاء مذابح مروعة في “أوكرانيا” قتل فيها ما يقدر بنحو 100000 يهودي و كانت خطوط “دينيكين” ممدودة و كان يفتقر إلى الاحتياطيات و تقدم بتهور لأن “بريطانيا” أخبرته أنه ما لم يأخذ العاصمة الجديدة قبل بداية الشتاء فلن يتلقى المزيد من المساعدة و في المعارك التي دارت في أكتوبر و نوفمبر سحق الجيش الأحمر البيض بشكل حاسم و أجبرهم على الفرار إلى موانئ البحر الأسود و بقيت بقايا تحت قيادة الجنرال “بيوتر رانجيل” لفترة في شبه جزيرة القرم حيث تم طردهم منها في نوفمبر 1920 و تم إجلاء الناجين و انضموا إلى مليون و نصف المليون روسي في المهجر حيث تتراوح تقديرات خسائر الحرب الأهلية و الذين كان معظمهم من المدنيين ضحايا الأوبئة و الجوع من 10 ملايين كحد أدنى إلى رقم أعلى بثلاثة أضعاف .

و رغم انتصار الشيوعيين الا انه لا يمكن أن يُعزى ذلك إلى الروح المعنوية المرتفعة لقواتهم حيث كان معدل الفرار من الجيش الأحمر مرتفعًا بشكل غير عادي مما دفع “تروتسكي” الى تأسيس عهدًا حقيقيًا من الرعب لمنع الانشقاقات بما في ذلك وضع مفارز من المدافع الرشاشة في مؤخرة القوات مع تعليمات بإطلاق النار على الوحدات المنسحبة و مع ذلك استمرت عمليات الفرار في أوقات مختلفة و كان ما يقرب من نصف عناصر الجيش الأحمر (1.9 مليون رجل) غائبين عن الرتب و لكن يمكن أن يُعزى انتصار البلاشفة جزئيًا إلى التنظيم المتفوق و الفهم الأفضل للأبعاد السياسية للحرب الأهلية و لكن في التحليل النهائي كان ذلك يرجع أساسًا إلى المزايا التي لا يمكن التغلب عليها و التي تمتعوا بها و هى سيطرتهم على قلب ما كان يُعرف بالإمبراطورية الروسية حيث يسكنها حوالي 70 مليون روسي بينما عمل خصومهم في الأطراف حيث كان عدد السكان قليلًا و مختلطًا عرقيًا لذلك ففي جميع الاشتباكات تقريبًا تمتع الجيش الأحمر بغالبية كبيرة من حيث العدد كما تمتعت بالتفوق في المعدات العسكرية نظرًا لأن معظم الصناعات الدفاعية الروسية و ترساناتها كانت موجودة في وسط البلاد و ورثوا مخازن ضخمة من الأسلحة و الذخيرة من الجيش القيصري و على النقيض من ذلك كان البيض يعتمدون بالكامل تقريبًا على المساعدات الخارجية .

و كان أحد النتائج الثانوية للثورة هو فصل المناطق الحدودية التي يسكنها غير الروس و عندما كان البلاشفة خارج السلطة شجعوا العملية و رفعوا شعار “تقرير المصير الوطني” و لكن بمجرد وصولهم إلى السلطة تحركوا بشكل حاسم لاستعادة هذه الأراضي و إعادة دمجهم في “روسيا” باستثناء تلك المناطق التي تتمتع بدعم بريطاني أو فرنسي قوي مثل “فنلندا” و منطقة البلطيق و “بولندا” و بحلول عام 1921 احتل الجيش الأحمر جميع الجمهوريات المستقلة للإمبراطورية الروسية البائدة و في عام 1922 أعلنت “موسكو” عن إنشاء اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية أو ما يعرف بإسم الاتحاد السوفيتي .

الأممية الشيوعية

نظر “لينين” و رفاقه إلى “روسيا” على أنها ليست أكثر من نقطة انطلاق لشن حرب أهلية عالمية حيث كانوا يخشون أنه إذا ظلت الثورة محصورة في “روسيا” الزراعية المتخلفة فإنها ستهلك تحت الهجوم المشترك لـ “البرجوازية” الأجنبية و الفلاحين المحليين و من وجهة نظرهم كان من الضروري نقل الثورة من الاتحاد السوفيتي إلى الخارج و خاصة الدول الصناعية في الغرب التي كانوا يعتقدون أن عمالها حريصون على إسقاط مستغليهم و لتنظيم و تمويل هذا الجهد شكلوا في مارس 1919 الأممية الثالثة أو “الكومنترن” و كانت هذه المنظمة فرعًا للحزب الشيوعي الروسي و تعمل تحت رعاية اللجنة المركزية للحزب و بموجب القواعد التي وضعت في عام 1920 في المؤتمر الثاني للكومنترن كان من المقرر إنشاء الأحزاب الشيوعية في الخارج إما من جديد أو عن طريق تقسيم الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية و في كلتا الحالتين يجب أن يكونوا مسؤولين أمام “موسكو” وليس أمام جمهورهم المحلي .

و على أمل استغلال الاضطرابات السياسية و الاقتصادية التي عصفت بأوروبا الوسطى بعد انتصار الحلفاء أرسلت “موسكو” عملاء بأموال وفيرة لإثارة الاضطرابات في “ألمانيا” حيث فشلت ثلاث جهود ثورية بمساعدة الشيوعيين المحليين و المتعاطفين في أوائل عام 1919 و 1921 و ​ 1923 بسبب سلبية العمال و الإجراءات الحكومية المضادة و في “المجر” وصلت حكومة بلشفية تحت قيادة “بيلا كون” إلى السلطة في مارس 1919 لكنها استمرت أربعة أشهر فقط قبل الإطاحة بها كما أن جهود التحريض على الاضطرابات الاجتماعية في أماكن أخرى لم تنجح أيضًا و في النهاية تم التخلي عنها لصالح التسلل إلى المؤسسات القائمة من قبل المنظمات الشيوعية القانونية و السرية على حد سواء و بحلول أوائل العشرينات من القرن الماضي نجح “الكومنترن” في تشكيل فروع للحزب الشيوعي في معظم الدول الأوروبية و خاصة “فرنسا” و “إيطاليا” التي استخدمت كمجموعات ضغط و مع ذلك كان لا بد من تأجيل فكرة الثورة العالمية إلى أجل غير مسمى و تحويل تركيز القيادة البلشفية على بناء دولة شيوعية معزولة في “روسيا” التي تركزت على احتكار الحزب الواحد و المعروفة منذ أوائل عشرينيات القرن الماضي باسم “الشمولية” و التى لم تتم محاكاتها من قبل العناصر المتعاطفة مع الشيوعية و لكن من قبل الراديكاليين القوميين المعادين لها مثل “بينيتو موسوليني” في “إيطاليا” و “أدولف هتلر” في ألمانيا .

الثقافة والدين في ظل الشيوعية

لأن البلاشفة كانوا عاقدين العزم على تغيير جذري في النظام السياسي و الاقتصادي و كذلك خلق نوع جديد من البشر فقد علقوا أهمية كبيرة على كل جانب من جوانب الثقافة و خاصة التعليم و الدين حيث قاموا بإغلاق الصحف المعادية و إخضاع جميع المطبوعات للرقابة الوقائية و في عام 1922 أنشأوا مكتب رقابة مركزي لدية السلطة فى مراقبة المواد المطبوعة و كذلك الفنون المسرحية لكن في الأمور الأدبية و الفنية طالما كان “لينين” و هو على قيد الحياة يظهر درجة من التسامح كانت غائبة عن المجالات الأخرى للحياة السوفيتية رغم ادراكه من أن المثقفين يرفضوه و مع ذلك أراد كسبهم و قام بالسماح للكتاب و الفنانين بحرية الإبداع طالما أنهم لم ينخرطوا في معارضة سياسية علنية و نتيجة لذلك شهدت أوائل العشرينيات من القرن الماضي درجة من الابتكار في الأدب و الفنون تناقضت بشكل واضح مع جمود النظام السياسي و من بين الكتاب و الفنانين القلائل الذين انضموا إلى البلاشفة كان “المستقبليون” بقيادة الشاعر “فلاديمير ماياكوفسكي” و مع ذلك اختار العديد من أفضل الكتاب و الفنانين الروس الهجرة و الذين وجدوا ظروفًا في الوطن لا تطاق و انسحب الآخرون إلى عالمهم الخاص و توقفوا تدريجياً عن النشر أو العرض .

اما فى الشق التعليمى و لتدمير ما اعتبروه الطابع “النخبوي” للنظام التعليمي الروسي أجرى الشيوعيون تغييرات ثورية في هيكله و مناهجه و تم تأميم جميع المدارس من الأدنى إلى الأعلى و تم تكليفها بمفوضية التنوير و فقد المعلمين سلطة فرض الانضباط في الفصل و ألغيت فترة ولاية أساتذة الجامعات التى فقدت حقها فى استقلاليتها حيث أدت هذه الإصلاحات إلى اضطراب كامل في النظام التعليمي اما بالنسبة الى الدين فقد اعتبر البلاشفة على غرار الاشتراكيين الآخرين المعتقد الديني خرافة جسيمة وكانوا مصممين على القضاء عليه بمزيج من القمع و السخرية و التنوير العلمي و صدر مرسوم في يناير 1918 بفصل الكنيسة رسميًا عن الدولة لكنه ذهب إلى أبعد من الغرض المعلن من خلال منع الهيئات الدينية من الانخراط في التعليم و من تحصيل الرسوم من أعضائها و منذ تأميم الدولة لجميع ممتلكات الكنيسة تُرك رجال الدين معدمين و في عام 1919 تم شن حملات كبرى لتشويه سمعة احتفالات الكنيسة من خلال تنظيم إجازات وهمية لعيد الميلاد و كشف رفات القديسين و صدرت أوامر للمدارس و منظمات الشباب بالانخراط في دعاية الإلحاد الا ان كل تلك الاجرائات لم تحقق المطلوب بل على العكس من ذلك فنتيجة إراقة الدماء التي صاحبت الثورة قامت بتكثيف الشعور الديني و أدت إلى زيادة حضور الكنيسة و في مارس 1922 قرر “لينين” شن هجوم مباشر على الكنيسة الأرثوذكسية و هي الهيئة المنظمة الوحيدة في “روسيا” السوفيتية التي كانت لا تزال خارج سيطرة الحزب الشيوعي و باستخدام ذريعة المجاعة أمرها بتسليم أوانيها المكرسة و الضرورية للخدمات لبيعها للإغاثة من المجاعة و نظرا لأنه فى واقع الأمر أن الكنيسة لا تستطيع الإمتثال لذلك الطلب اتهمها برفض الانصياع للقوانين و في الوقت نفسه تشويه سمعتها في أعين الناس بسبب قسوة معاناة الإنسان و في ربيع و صيف عام 1922 وقعت العديد من حوادث المقاومة مما أدى إلى إلقاء القبض على الكهنة و قتل العديد من المؤمنين بناء على أوامر “لينين” و أجريت محاكمات صورية في “موسكو” و “بتروجراد” و مدن أخرى حيث حُكم على بعض القساوسة بالإعدام و السجن و تم إنشاء “الكنيسة الحية” المنشقة و المكونة من كهنة منشقين و تعمل بتعليمات من “تشيكا” لخدمة مصالح الدولة و بالمثل تم اضطهاد معتنقى اليهودية اما بالنسبة الى الإسلام فقد كانت هي الأقل معاناة بسبب خوف “لينين” من تنفير الشعوب المستعمرة في الشرق الأوسط و التي كان يعول على دعمها ضد القوى الإمبريالية الغربية .

السياسة الخارجية

مع فشل محاولات التحريض على الثورة في الخارج تبنت القيادة الشيوعية العليا في عامى 1920-1921 سياسة خارجية معتدلة حيث انخرطت في علاقات دبلوماسية منتظمة مع أي دولة “رأسمالية” مستعدة للتعامل مع “روسيا” السوفيتية و بعد توقيع اتفاقية التجارة البريطانية السوفيتية في عام 1921 دخلت قوى أخرى في علاقات تجارية معها أيضًا و تبع ذلك اعتراف دبلوماسي و كانت “الولايات المتحدة” هي الرافض الرئيسي حيث رفضت الاعتراف على أساس أن النظام الشيوعي ينتهك بشكل روتيني المعايير المقبولة للسلوك الدولي و مع ذلك رغم غياب العلاقات الدبلوماسية لم يمنع الأمريكيين من القيام بأعمال تجارية مع “روسيا” السوفيتية و رغم تلك العلاقات فى الظاهر الا أن ” موسكو ” سعت لتخريب البلدان التي تقيم علاقات معها مستخدمة لهذا الغرض فروعًا للكومنترن و التي مثلتها كمنظمة “خاصة”.

و أولت الحكومة السوفيتية اهتمامًا خاصًا للعلاقات مع “ألمانيا” التي اعتبرتها مفتاح الثورة الأوروبية و إدراكًا لمرارة “ألمانيا” من “معاهدة فرساي” فإن “موسكو” سواء بشكل مباشر أو من خلال الحزب الشيوعي الألماني حددت نفسها مع القوى القومية و حرضت على العداء ضد “فرنسا” و “بريطانيا” و كان أحد النتائج الثانوية لهذه السياسة هو التعاون السري مع الجيش الألماني حيث منعت شروط فرساي الاحتفاظ بجيش و قوات جوية حديثة و مع ذلك كان الألمان حريصين على الاستعداد لليوم الذي سينتقمون فيه من إذلال هزيمة الحرب العالمية الثانية و دخل الجيش الألماني في اتفاقيات مع الحكومة السوفيتية للتحايل على أحكام فرساي و تعهدوا ببناء صناعات على أراضى الاتحاد السوفيتي لتصنيع الدبابات و الغازات السامة و الطيران العسكري و في المقابل وافقوا على تدريب الروس على استخدام هذه الأسلحة و استمر هذا التعاون الذي سمح للجيش الألماني بتطوير و اختبار تقنيات الحرب الخاطفة التي استخدمت لاحقًا في الحرب العالمية الثانية .

أزمة النظام الشيوعى بين عامى 1920 – 1921

أدت سياسات “الحرب الشيوعية” إلى أزمة اقتصادية غير مسبوقة ففي عام 1920 عندما انتهت الحرب الأهلية كان الإنتاج الصناعي يقارب ربع ما كان عليه في عام 1913 و انخفض عدد العمال العاملين بمقدار النصف تقريبًا و كانت الإنتاجية لكل عامل ربع مستوى عام 1913 و كان الأكثر إيلاما هو انخفاض إنتاج الحبوب نتيجة اضطرار الفلاحين إلى تسليم كل الحبوب التي قرر المسؤولون الحكوميون أنهم لا يحتاجونها للاستهلاك الشخصي أو العلف أو البذور و منعهم من البيع في السوق المفتوحة فقام الفلاحين بالرد على ذلك بتقليص مساحاتهم المزروعة حيث أدت هذه التخفيضات جنبًا إلى جنب مع انخفاض الغلة الناجم عن نقص الأسمدة و حيوانات الجر إلى انخفاض مطرد في إنتاج الحبوب لذلك تم تخفيض حصص الخبز في اليوم و ما زاد الطين بله هو اجتياح الجفاف للبلاد مما أحدث مجاعة واسعة النطاق في أوائل عام 1921 و أصبح هناك انخفاض كارثي في ​​إنتاج المواد الغذائية في المناطق التي كانت تزود تقليديًا بالجزء الأكبر من الحبوب و تأثرت 30 مقاطعة و في ذروة المجاعة عانى حوالي 35 مليون شخص من سوء التغذية الحاد و لجأ الجياع إلى أكل العشب و أحيانًا لحوم البشر و كانت الخسائر ستظل أكثر كارثية لولا المساعدة المقدمة من إدارة الإغاثة الأمريكية برئاسة الرئيس الأمريكي المستقبلي “هربرت هوفر” و التي بأموال من الكونجرس الأمريكي و مساهمات طوعية غذت معظم الجياع و مع ذلك فإن الخسائر البشرية في مجاعة عام 1921 تقدر بنحو 5.1 مليون شخص .

و نتيجة حدوث تلك المجاعات حدثت تمردات من قبل الفلاحين و التى تم مواجهتها بقمع شديد و أجبرت هذه الاضطرابات الريفية الواسعة النطاق “موسكو” على التفكير مكرهين في التخلي عن سياسات طلبات الطعام القسرية رغم التخوفات من ان فتح الأبواب على مصراعيها بذلك الشكل قد يؤدى الى عودة الرأسمالية حيث حدث تمرد في قاعدة كرونشتات البحرية بالقرب من “بتروجراد” و الذى كان معقلًا بلشفيًا و في فبراير عام 1921 رفع كرونشتات راية الثورة ضد الديكتاتورية الشيوعية مطالبين باستعادة الحريات و عقد جمعية تأسيسية و تم قمع التمرد بالقوة العسكرية و إعدام من تبقوا على قيد الحياة أو إرسالهم إلى معسكرات الاعتقال و لكن حتى أثناء سحق ذلك التمرد أظهرت الحقائق أنه اصبح من الضرورى اجراء تغييرات رئيسية في الإدارة الاقتصادية .

و خوفًا من أن يؤدي التحرير الاقتصادي إلى تشجيع المعارضة رافق “لينين” ذلك بقمع سياسي مكثف و في عام 1922 تم إلغاء جهاز ” تشيكا ” الأمنى واستبداله بجهاز “الإدارة السياسية للدولة” و بعد عام 1923 تم تغيير اسمه الى “الإدارة السياسية الموحدة للدولة” و من الناحية الرسمية كان من المقرر أن تعمل شرطة الأمن الجديدة بشكل أقل تعسفًا و لكن في الواقع كانت سلطاتها أكبر من سلطات “تشيكا” حيث إنها بالإضافة إلى السلطة التقديرية الواسعة للتعامل مع المعارضين السياسيين و إدارة شبكة من معسكرات الاعتقال تم تكليفها باختراق جميع المؤسسات الاقتصادية لإحباط اى محاولات للتخريب فيها و في عام 1922 تعرض قادة الحزب الاشتراكي الثوري لمحاكمة صورية انتهت بإدانتهم بالإعدام بتهم ملفقة تتعلق بالثورة المضادة و لكن نتيجة الاحتجاجات الدولية و الخوف من انتقام الاشتراكيين الثوريين تسبب ذلك في تأجيل تنفيذ الأحكام و استجاب “لينين” أيضًا بقوة للمعارضة في الحركة العمالية فيما يسمى بـ “المعارضة العمالية” بقيادة قدامى المحاربين البلشفيين الذين اعترضوا على بيروقراطية الدولة و إقصاء العمال من صنع القرارو لكن تم تطهير قادة “المعارضة العمالية” و قمع كل علامات الاستقلال اللاحقة في الأوساط العمالية.

الصراع من أجل الخلافة

بدأت صحة “لينين” تتدهور في عام 1921 و ازدادت تدهورا خلال العام التالي عندما أصيب بعدة سكتات دماغية و أُجبر تدريجياً على الانسحاب من النشاط اليومي و أتيحت له الفرصة لاستطلاع إنجازاته حيث لم يكن راضيا عنها و شعر أنه لو كانت سمحت صحته لكان قد أجرى إصلاحات كبيرة في الهيكل السياسي و الاقتصادي للدولة السوفيتية حيث تحجر الحزب الشيوعي و أصبح تركيز القوة بشكل غير مبرر في أيدي جهاز “موسكو” الذى سيطر عليه “جوزيف ستالين” بشكل متزايد و الذي اعتمد عليه “لينين” كمسؤول فعال و وافق على ترقيته في أبريل 1922 ليكون أمينًا عامًا للحزب حيث استخدم “ستالين” سلطته لتعيين مسؤولين موالين له شخصيًا و معادون لخصمه اللدود “ليون تروتسكي” و أدى عجز لينين المتزايد في عام 1922 إلى صراع على السلطة داخل الحزب وقد بلغ ذروته بعد خمس سنوات بإبعاد “تروتسكي” على يد “ستالين” رغم انه فى في ظاهر الأمر كان “تروتسكي” هو الوريث الطبيعي للينين حيث كان هو من نظم انقلاب أكتوبر و أدار الجيش الأحمر في الحرب الأهلية و كان خطيبًا رائعًا و كاتبًا مفعمًا بالحيوية و له سمعة دولية و مع ذلك كانت فرصته في خلافة لينين صعبه لأنه انضم إلى الحزب البلشفي في أواخر أغسطس عام 1917 و بعد أن انتقده سابقا قبل انضمامه علانية و بالتالي فهو لم ينتمي أبدًا إلى “الحرس القديم” و كان شخصا غير محبوب بسبب غطرسته و عدم رغبته في العمل كعضو في فريق اضافة الى انه كان ملولا من روتين الأعمال الورقية و كان إداريًا ضعيفًا.

و على الرغم من أن “ستالين” أقل شهرة إلا أنه كان في وضع أفضل بكثير لخلافة “لينين” رغم انه كان يفتقر إلى الحس الذهني و متحدثًا مملًا و كاتبًا باهتًا و كان يعمل وراء الكواليس حيث تجنب الأضواء و ركز بدلاً من ذلك على بناء الكوادر الموالية لنفسه و بحلول عام 1922 كان في وضع فريد للتلاعب بالسياسات لتحقيق أهدافه الخاصة بحكم حقيقة أنه ينتمي وحده إلى كل من المكتب السياسي الذي يضع السياسة و الأمانة العامة التي تدير الموظفين و لإحباط “تروتسكي” دخل في تحالف مع “جريجوري زينوفييف و ليف كامينيف” و شكل معهم “ثلاثية” سيطرت على المكتب السياسي و عزلت منافسهم المشترك و إدراكًا منه أن أتباعه كانوا يتشاجرون و خوفا من أن الحزب الذي بناه على مبدأ الوحدة المنضبطة سوف ينهار بعد وفاته حاول “لينين” التدخل لكنه لم ينجح حيث أمره الثلاثي بدعوى القلق على صحته بالامتناع عن التدخل في شؤون الحكومة و من ديسمبر 1922 فصاعدًا عاش “لينين” تحت الإقامة الجبرية تقريبًا و عند وفاته في يناير 1924 تم تحنيطه و عرضه بشكل دائم في ضريح في الساحة الحمراء لتزويد الفلاحين المؤمنين بالخرافات برمز مرئي للقداسة و بحلول ذلك الوقت كانت السلطة في أيدي الثلاثي الذي تفكك على يد “ستالين” الذى وعد بتوفير قيادة قوية مستمرة و صد جميع التحديات الديمقراطية والحفاظ على الامتيازات التي حصلوا عليها منذ اندلاع الثورة البلشفية .

الاتحاد السوفيتي منذ وفاة لينين حتى وفاة ستالين

السياسة الاقتصادية الجديدة وهزيمة اليسار

جثمان لينين المحنط

كانت المرحلة الأخيرة من حياة “لينين” و التى بدأت بالعجز الجزئي ثم الكلي ثم الموت قد وفرت نوعًا من الفترة الانتقالية لظهور قيادة جدبدة للحزب لكن القادة الذين انتقل إليهم إرثه انقسموا لدرجة أنه كان من الصعب حتى على “لينين” السيطرة على طموحهم السياسي حيث شهدت سنوات “لينين” الأخيرة القضاء النهائي على جميع المنظمات غير الشيوعية و قمع الانحرافات الديمقراطية في الحزب الشيوعي نفسه و من ناحية أخرى انطوت السياسة الاقتصادية الجديدة على تخفيف سيطرة الدولة في بعض المجالات مقابل تقوية شبكات الحزب و الشرطة في جميع أنحاء البلاد حيث كان الاقتصاد في حالة خراب و الكارثة الديموغرافية هائلة بـ 14 مليون حالة وفاة مبكرة منذ عام 1914 و 2 مليون في الحرب العالمية الأولى و الباقي بسبب المجاعة و المرض و الحرب الأهلية و الإرهاب اضافة الى هجرة حوالي 2 مليون و لكن بشكل عام حققت السياسة الاقتصادية الجديدة النتائج الاقتصادية المرجوة و بدأ الفلاحين الذين سُمح لهم الآن بالتحكم في ممتلكاتهم في تشغيل ممتلكاتهم بشكل مربح و بدأ صغار التجار في تولي نقل المنتجات الغذائية الريفية إلى المدن و بدأت الدولة بأكملها في العودة إلى الوضع الاقتصادي الطبيعي .

و أصبح هناك صراع بين الفصائل يزداد حدته باستمرار و اقتصر على دائرة محدودة من أعضاء اللجنة المركزية للحزب حيث كان “لينين” قد لاحظ قبل بضع سنوات أن سياسة الحزب الشيوعي كان يتم تحديدها من خلال قسم صغير يمكن أن يطلق عليه الحرس القديم للحزب و الذى كان يشكل مجموعة القيادة حتى أواخر الثلاثينيات و إلى حد ما حتى بعد ذلك و قد التزم أعضاء هذه الدائرة دون استثناء بنظام الإيمان الأيديولوجي حيث كان ” ستالين ” يسيطر على أمانة اللجنة المركزية و في وضع يسمح له بوضع مرشحيه الموالين له في لجان المقاطعات و بالتالي دعم موقفه حيث يُنظر إلى هذا أحيانًا على أنه مفتاح وصوله إلى السلطة العليا فى مقابل ظهور “تروتسكي” ضعيفًا من مؤتمر الحزب الثاني عشر في أبريل 1923 بينما حصل “ستالين” على مؤيدين جدد في اللجنة المركزية و أعضاء جدد من المكتب السياسي و من بينهم “فياتشيسلاف مولوتوف” و كان داخل المكتب السياسي نفسه دائما ما كان ينادى الفصيل المهزوم بالديمقراطية و كانت آخر محاولة جادة بشكل معقول لعكس النظام البيروقراطي الاستبدادي داخل الحزب هي “رسالة الـ 46” في أواخر عام 1923 حين كان “تروتسكي” هو من تحدث في المكتب السياسي عن الفصيل المناهض للبيروقراطية و حظرت اللجنة المركزية الرسالة لكنها سمحت لاحقًا بمناقشتها و أظهرت دعمًا واسعًا في الحزب للمعارضين و كان رد فعل القيادة هو تطهير من ابدى ميل نحو ذلك الفهم .

و عندما اجتمع المؤتمر الثالث عشر للحزب في مايو 1924 مات “لينين” و هُزم “تروتسكي” لكن أرملة “لينين” السيدة “ناديجدا كروبسكايا” أرسلت “وصيته إلى المكتب السياسي لإحالتها إلى الكونجرس و كان في هذه الوثيقة دعوة إلى الإطاحة بستالين لكن “زينوفيف و كامينيف” حلفاء “ستالين” عملوا على الا تنشر الوصية و احتفظ ستالين بمنصبه ثم شن الثلاثى هجمات عنيفة ضد “تروتسكي” الذي أدين في جلسة عامة للجنة المركزية في يناير 1925 و فقد منصبه كمفوض حرب لكن سرعان ما وجدا “زينوفيف و كامينيف” أن مواقفهما قد تقوضت من قبل “ستالين” و في مؤتمر الحزب الرابع عشر في ديسمبر عام 1925 هُزِموا بأغلبية ساحقة و في الأشهر الأولى من عام 1926 انهارت قبضة “زينوفيف” على قاعدة سلطته في “لينينجراد” (الاسم الرسمي الجديد لسانت بطرسبورج) و سيطر حليف “ستالين” “سيرجي كيروف” على المدينة ليتحالف “زينوفييف و كامينيف” مع “تروتسكي” في معارضة جديدة و بعد قتال مرير لكن ميؤوس منه بين الفصائل تم طرد الثلاثة و آلاف من أنصارهم من الحزب في وقت المؤتمر الخامس عشر للحزب الذي اجتمع في 2 ديسمبر عام 1927 و سرعان ما تراجع بعض من أتباع “زينوفييف” و أعيدوا إلى الحزب و كذلك بعض التروتسكيين لكن معظمهم تم نفيه إلى “سيبيريا” أو آسيا الوسطى و من بينهم “تروتسكي” نفسه حتى يناير عام 1929 حيث تم ترحيله من الاتحاد السوفيتي في البداية إلى ” تركيا ” و بعد ذلك عاش في “النرويج” و أخيراً في “المكسيك” حيث نظم “الأممية الرابعة” للجماعات المناهضة للستالينية حول العالم .

نحو “الثورة الثانية”: 1927-1930

و حقق “ستالين” الآن أغلبية في المكتب السياسي و عندما بدأ في التحول إلى اليسار لم يعارضه سوى “نيكولاي بوخارين” و “أليكسي ريكوف” و “ميخائيل تومسكي” و من عام 1927 إلى عام 1930 استمر الصراع السياسي بين الستالينيين و هؤلاء “اليمينيين” و في الحزب الشيوعي تم رفض اليسار باعتباره مغامرة و في هذه الأثناء كانت الدولة تعتمد على السوق الذي يعطي الفلاحين الحافز الكافي لبيع فائض الحبوب و إطعام المدن و كان الشعور العام للحزب معارضاً لآلية السوق وجاهلاً بها و في عام 1928 اعتقدت القيادة مرة أخرى أن النقص غير المقبول في الإمدادات الزراعية بات وشيكا لذلك حاول الحزب الشيوعى الاقتراب من الفلاحين و كان يصنفهم الى طبقات ذات مصالح مختلفة و متضاربة حيث كان “الكولاك” الأثرياء أعداءً لدودين للاشتراكية بينما “الفلاحين المتوسطين” الذين يشكلون الغالبية العظمى متذبذبين و لكن يمكن أن ينضموا إلى الجانب البروليتاري و كان “الفلاحين الفقراء” إلى جانب “البروليتاريين القرويين” حلفاء موثوق بهم لذلك بدء ” ستالين ” فى وضع برنامج صراع طبقي مع العناصر الضالة من خلال فرض تدابير مصادرة بحتة لذلك و في عامي 1928 و 1929 انتقل “ستالين” و أنصاره تدريجياً إلى الموقف القائل بأن العمل الجماعي وحده هو الذي سيجعل الحبوب متاحة للسلطات و لإحداث ذلك كان من الضروري شحذ “الحرب الطبقية” في الريف و لكن رأى “بوخارين مع ريكوف وتومسكي” أن هذا قد يعني نظامًا إرهابيًا و تدمير ثمار السياسة الاقتصادية الجديدة لكنهم أصبحوا الآن شبه عاجزين .

جوزيف ستالين

و ادى إحياء التقدم الشيوعي من عام 1928 أيضًا إلى تغييرات جذرية في الموقف الرسمي تجاه المثقفين فعلى الصعيدين الفني و الإبداعي كان هناك شعور بأن المتخصصين الشيوعيين الجدد في كل مجال أصبحوا الآن مجهزين بشكل جيد بما يكفي لتولي زمام الأمور من أسلافهم البرجوازيين و ترافق هذا التطهير مع فرض معايير أيديولوجية بشكل أكثر صرامة في كل مجال من مجالات الثقافة و العلوم و الفلسفة و في صيف عام 1928 اجريت محاكمة علنية في “موسكو” وسط دعاية واسعة النطاق لـ 53 مهندسًا بتهمة التخريب حيث تكررت تلك المحاكمات مجددا على مر السنوات التالية فى اشارة واضحه أنه لا يمكن الوثوق بالمتخصصين البرجوازيين و بحلول عام 1930 لم يكن أكثر من نصف المهندسين الباقين على قيد الحياة قد حصلوا على تدريب مناسب اما في الأدب فقد سيطرت الرابطة الروسية للكتاب البروليتاريين التي كان لديها نهج “حزبي” عقائدي في الكتابة و في نهاية عام 1929 تم إلقاء القبض على كل من الاقتصاديين البرجوازيين و الشيوعيين الذين حثوا على الحيطة و بعد ذلك تم إطلاق النار على معظمهم و في نفس الوقت تجدد الاعتداء على الدين رغم أن الدستور السوفييتي قد ضمن حرية الدعاية الدينية و المعادية للدين و لكن في 22 مايو 1929 تم تعديل هذه المادة إلى “حرية العبادة الدينية والدعاية المعادية للدين” و كان هذا بمثابة نذير لحملة تم فيها تصنيف كهنة القرى على أنهم ” كولاك ” في حين تم إغلاق الكنائس على نطاق واسع و هدمها في كثير من الأحيان على مدى السنوات القليلة المقبلة.

الحزب ضد الفلاحين

منذ منتصف عام 1929 تم تغيير القرارات المتعلقة بمدى و سرعة التجميع المقترحه شهريًا تقريبًا و أصبحت أكثر تطرفًا من أي وقت مضى و في الوقت نفسه تم فرض العديد من الغرامات و نزع الملكية و حتى الترحيل و بحلول نهاية العام أصبحت السياسة الرسمية هي “تصفية الكولاك كطبقة” و كانت دعاية الحزب أن جماهير الفلاحين تؤيد الجماعية و أنهم كانوا يقاتلون من أجلها ضد الكولاك و أنه عندما يتم القضاء عليها سيؤدي ذلك إلى زيادة كبيرة في الإنتاج الزراعي و لكن ما كان يحدث فى الواقع مغاير تماما عن تلك الدعايات حيث تم ترحيل حوالي 10 ملايين و ربما أكثر إلى مناطق غير مضيافة في القطب الشمالي و أماكن أخرى بعضهم مباشرة و بعضهم بعد بضعة أشهر و لا يملكون أرضًا فيها و أدى ذلك الى معدل ضحايا مرتفع و على الرغم من صعوبة استنتاج الإجماليات الدقيقة فمن المحتمل حدوث حوالي 2 مليون حالة وفاة مبكرة أو أكثر .

و في منتصف عام 1929 كان حوالي 5 ملايين فلاح فقط يعملون في المزارع الجماعية و في مارس 1930 ارتفع هذا العدد إلى أكثر من 70 مليونًا و اتخذت مقاومة الفلاحين أشكالًا مختلفة بما في ذلك عدد من التمردات المحلية لكن عنصرها الرئيسي كان الذبح الجماعي لحيوانات المزرعة حيث أظهرت الأرقام الرسمية المعطاة في عام 1934 خسارة 26.6 مليون رأس من الماشية و كانت النتيجة المباشرة لهذه الإجراءات تدهوراً كارثياً في الإنتاج الزراعي في جميع أنحاء الاتحاد السوفيتي لذلك خلال شتاء 1932-1933 اجتاحت مجاعة كبرى مناطق زراعة الحبوب و توفي حوالي 4 إلى 5 ملايين في “أوكرانيا” و مات من 2 إلى 3 ملايين في شمال القوقاز و منطقة الفولجا السفلى و تم إجراء تعداد سكاني في يناير 1937 و لكن تم إلغاؤه و اعتقل مجلس التعداد التى أظهرت أرقامه التي تم الكشف عنها أخيرًا في عام 1990 أن عدد سكانها بلغ 162 مليونًا و كان الديموغرافيون السوفيت يعولون على حوالي 177 مليون و بالتالي بلغ العجز السكاني بما في ذلك انخفاض المواليد حوالي 15 مليونًا حيث يُعتقد أن الوفيات المبكرة كان بسبب الترحيل والمجاعة .

التصنيع 1929-1934

على الجانب الصناعي كانت الثلاثينيات من القرن الماضي فترة توجيه جميع الموارد الممكنة إلى التصنيع المكثف و كان من المقرر أن يتم دعم ذلك من خلال الزراعة الاجتماعية و حيث أن الخطة الخمسية قد حددت في شكلها الأولي أهدافًا لـ 50 صناعة و للزراعة حيث كان معدل النمو الصناعي المحدد أصلاً 18-20٪ (في الواقع ، تم تحقيق ذلك بالفعل ، على الأقل على الورق) و في وقت لاحق من العام أصر “ستالين” على مضاعفة هذا المعدل تقريبًا و تم ربط الأجور و حصص الإعاشة بالإنتاجية و في عام 1932 تم وضع الإمدادات الغذائية التي كانت في ذلك الوقت شديدة النقص تحت السيطرة المباشرة لمديري المصانع من خلال إدخال نوع من نظام الشاحنات المخصص للعمال على أساس أدائهم .

و كانت الخطة بعد ذلك سمة دائمة للحياة السوفيتية حيث تبعت الخطة الخمسية الأولى سلسلة من الخطط الأخرى و لطالما ارتبك فهم الجانب الاقتصادي لحركة التصنيع في ثلاثينيات القرن الماضي بسبب عاملين الأول كان ادعاء الشيوعيين أنهم ينفذون خطة عقلانية و قابلة للتنفيذ و الثاني الذي جاء لاحقًا هو الادعاء بأنهم حققوا في الواقع زيادات غير مسبوقة في الإنتاج و كانت المهمة الأساسية خلال حقبة “ستالين” و حتى في وقت لاحق هي بناء الصناعة الثقيلة و في نهاية عام 1932 أُعلن أن الخطة الخمسية الأولى قد اكتملت بنجاح و لكن في الواقع لم يتم الوصول إلى أي من الأهداف أو حتى الاقتراب منها و لكن على اى حال و نتيجة تلك الثورة التصنيعية كان هناك انتقال للسكان من الريف إلى المدن فخلال الفترة بين عامي 1929 و 1932 ورد أن حوالي 12.5 مليون عامل جديد دخلوا العمل الحضري منهم 8.5 مليون قادمين من الريف و على الرغم من أنها لم تغير الاتحاد السوفيتي إلى دولة حضرية بالمعنى الغربي الا انه فى عام 1940 تم تصنيف ما يزيد قليلاً عن ثلثي السكان على أنهم ريفيون و أقل من ثلثهم بقليل من الحضر حتى أوائل الستينيات بعد أن أصبح السكان حضريين وريفيين على قدم المساواة .

الداخل السوفيتي

في داخل الحزب الشيوعي اكتملت القبضة الستالينية في عام 1930 مع طرد “بوخارين و تومسكي و ريكوف ” حيث أشار المؤتمر السادس عشر للحزب إلى نهاية “الانحراف” اليمينى و تألف المكتب السياسي فقط من الستالينيين و تم وصف المؤتمر السابع عشر للحزب الذي انعقد في يناير 1934 بأنه مؤتمر المنتصرين حيث لم تعد هناك انحرافات يجب مكافحتها و لكن كان يبدو أن للحزب رأى أخر بعد أن رأه غير مناسب للقيادة و ناقشت مجموعة من الشخصيات المهمة استبداله بكيروف كسكرتير عام مع الاحتفاظ به في منصب فخري و قام حوالي 166 مندوبًا من أصل 1225 بشطب اسم “ستالين” في الاقتراع للجنة المركزية الجديدة الا أن ذلك لم يكن على هوى ” ستالين ” الذى شعر بالتهديد و قرر بداية العهد الستالينى الحقيقى و في نهاية عام 1934 اغتيل “كيروف” في ” لينينجراد” ظاهريًا على يد شيوعي ساخط حيث تم ترتيب وصوله إلى ضحيته من قبل كبار المسؤولين المحليين في NKVD (مفوضية الشعب للشؤون الداخلية) كما أعيد تنظيم الشرطة السرية و تلا وفاة “كيروف” على الفور مرسوم بشأن المحاكمة الموجزة للإرهابيين و وجهت التهمة إلى أن القاتل كان عضوا في جماعة “زينوفيفيت” الإرهابية في “لينينجراد” و تم إطلاق النار عليهم جميعا على الفور و تم القبض على “زينوفيف و كامينيف” و العديد من أتباعهم و حُكم عليهم في محكمة مغلقة بأحكام بالسجن على أساس أنهم يتحملون المسؤولية السياسية عن جريمة القتل و تولى “أندريه جدانوف” وكيل “ستالين” السيطرة على “لينينجراد” و من عام 1935 إلى عام 1939 تم القضاء على جميع أتباع “كيروف” تقريبًا و على مدى السنوات الأربع التالية كان مركز الحياة السياسية في “الاتحاد السوفيتي” هو فضح و قمع دوائر متزايدة باستمرار من المتآمرين المزعومين ضد النظام و جميعهم مرتبطون بطريقة أو بأخرى بقضية “كيروف” و خضعت البلاد لحملة مكثفة ضد “أعداء الشعب” المخفيين و تجلى هذا في سلسلة من المحاكمات العلنية أو المعلنة و في عملية إرهابية واسعة النطاق ضد السكان ككل.

و في أغسطس عام 1936 أقامت NKVD محاكمة لزينوفيف و كامينيف و تم عرض هذه القضايا على أنها عنصر حاسم في الحياة العامة للبلاد و اعترف الاثنان و 14 آخرين بمؤامرات إرهابية و تم إطلاق النار عليهم و فى نفس العام دخل دستور جديد (يُطلق عليه غالبًا دستور ستالين) حيز التنفيذ و الذى كان به بنود تتعلق بحقوق الانسان الا انه لم يكن لها أي تأثير و أصبح الاتحاد السوفيتي يدار بقبضة حديدية ستالينية حيث ازداد اعداد المعتقلين فى السجون ليتجاوز 2 مليون شخص و موزعين على معسكرات تقع إلى حد كبير في القطب الشمالي (مثل كوليما وفوركوتا) ولكن أيضًا في كازاخستان و أماكن أخرى و توسع النظام أكثر و أصبح سمة منتظمة للحياة السوفيتية و خلال عامي 1937 و 1938 بلغ الإرهاب ذروته حيث تم إنشاء محاكم خاصة خارج نطاق القانون و حكمت على مئات الآلاف من الأشخاص بالإعدام في غيابهم و ظلت المقابر الجماعية للضحايا سرية حتى أواخر الثمانينيات كما تم تطهير الحزب الشيوعي نفسه بلا رحمة بإعتقال و قتل الكثيرين منهم فمن بين 2.3 مليون شخص كانوا أعضاء في الحزب في عام 1935 تم إعدام أقل من النصف بقليل أو ماتوا في معسكرات العمل .

و بالمثل تم تدمير مفوضيات الشعب و إدارات الحزب في المركز و تطهير الكوادر الصناعية و الهندسية و الاقتصادية بما في ذلك الكوادر العاملة في السكك الحديدية كما تكبد الجيش خسائر فادحة ففي مايو 1937 تم القبض على ثمانية من كبار الجنرالات برئاسة المارشال “ميخائيل توخاتشيفسكي” و تعرضوا للتعذيب و الاعدام و على مدار العامين التاليين قُبض على جميع زملائهم الكبار و حوكموا سراً و أُعدموا و عانى القطاع الثقافى حيث أُعدم عدة مئات من الكتاب و أنطبق الشيء نفسه في جميع المهن و شمل التطهير أيضًا أعدادًا كبيرة من عامة الناس و إجمالاً قُبض على ما لا يقل عن 5 ملايين شخص و لم ينجو منهم أكثر من 10 في المائة و في مارس 1938 جاءت محاكمة “موسكو” الثالثة و اعترف “بوخارين و ريكوف و آخرين” من بينهم مفوض الشرطة السابق “ياجودا” بارتكاب عدة جرائم قتل بما في ذلك جريمة قتل “كيروف” و الكاتب “مكسيم جوركي” فضلاً عن الخيانة و التجسس و ما إلى ذلك و تم اعدامهم فى النهاية و كان الناجون الوحيدون من المكتب السياسي الأخير للينين هم “ستالين” و “تروتسكي” و كان الأخير في المنفى في “المكسيك” (قُتل تروتسكي لاحقا على يد أحد عملاء NKVD في عام 1940) .

و بحلول خريف عام 1938 أصبح من الواضح أن الرعب كان يزعزع الحياة الكاملة للبلد بما في ذلك الاقتصاد حيث انخفض الإنتاج فعليًا في 1938-1939 و تمت إقالة “يزوف” من موقعه في الشرطة و اعتقاله عام 1939 و إطلاق النار عليه عام 1940 و يتولى “لافرنتي بيريا” قيادة NKVD و أشرف على تقليل وتيرة التطهير بشكل كبير و شهد مؤتمر الحزب الثامن عشر في مارس 1939 التحول النهائي للسياسة السوفيتية الستالينية حيث كان تاريخ الاتحاد السوفيتي حتى عام 1953 بشكل عام مقصورًا على قرارات “ستالين” و محاولات مرؤوسيه لكسب ثقته.

السياسة الخارجية 1928-1940

منذ عام 1928 و بالتناغم مع التحول المتزايد نحو اليسار في الداخل أصبحت السياسة الخارجية و سياسة الكومنترن مرة أخرى متطرفة بالتركيز على خيانة الاشتراكيين الديمقراطيين في الغرب و مع وصول “هتلر” إلى السلطة في “ألمانيا” تم تفسيره في البداية على أنه انتصار للشيوعيين و لكن بحلول منتصف عام 1934 أصبح من الواضح أن المفهوم برمته كان خاطئًا و في سبتمبر 1934 انضم الاتحاد السوفيتي إلى عصبة الأمم و في مايو 1935 تم التوقيع على معاهدة فرنسية – سوفيتية للمساعدات المتبادلة و تبع ذلك معاهدة سوفيتية-تشيكوسلوفاكية بعد بضعة أسابيع و في يوليو 1936 اندلعت الحرب الأهلية فى ” إسبانيا ” بين المتمردين من ناحية و قوات الجنرال “فرانسيسكو فرانكو” الذى حصل على دعم كبير من “ألمانيا و إيطاليا” و فى المقابل قدم السوفييت بضع مئات من الدبابات و الطائرات و بضعة آلاف من المتخصصين العسكريين بالإضافة إلى ما يصل إلى 42000 متطوع من الألوية الدولية الذين تم تربيتهم بشكل كبير من قبل الكومنترن لدعم المتمردين و عندما كان من الواضح أن الحرب قد خسرها المتمردين تم سحب الدعم السوفيتي .

و مع اقتراب اندلاع الحرب العالمية الثانية كان “ستالين” لم يكن لديه النية للتورط عسكريا و كان يبحث في إمكانية وجود سياسة بديلة قائمة على التسوية مع “هتلر” الذى فتح اتصالات مع ” موسكو ” فى الوقت الذى حاولت فيه ” بريطانيا و فرنسا ” عمل المثل حيث حاولوا هم أيضًا الحصول على الدعم السوفيتي و لكن كان هناك عدم ثقة مبرر من كلا الجانبين و تعاملت القوى الغربية مع المفاوضات على مضض و بطريقة خرقاء مقابل عرض مغرى من “هتلر” فى زيادة كبيرة في الأراضي السوفيتية مستقبلا و على الأقل في الوقت الحاضر “السلام ” و هو ما قبله السوفييت و وصل وزير الخارجية الألماني “يواكيم فون ريبنتروب” إلى “موسكو” في 23 من أغسطس عام 1939 و تم التوقيع على ميثاق عدم الاعتداء النازي السوفيتي و بعدها بأيام غزا الألمان “بولندا” في 1 سبتمبر و دخلت القوات السوفيتية الجزء الشرقي من ذلك البلد في 17 سبتمبر و ثلاث دول من البلطيق و هم “إستونيا و لاتفيا و ليتوانيا” و مورست ضغوط شديدة عليهم مما اضطرهم لقبول الحاميات السوفيتية بموجب المعاهدات الموقعة في سبتمبر و أكتوبر و التى ضمنت عدم التدخل في سياساتهم الداخلية و تم إصدار إنذار مماثل لفنلندا لكن المحادثات انهارت و في 30 نوفمبر 1939 هاجم الاتحاد السوفيتي البلاد و أسس على الفور جمهورية “فنلندا” الديمقراطية برئاسة الشيوعي “أوتو كوسينن” لكن عسكريا بدأت “حرب الشتاء” او ” الحرب الروسية الفنلندية ” بسلسلة من الهزائم المهينة التى لحقت بجيوش الاتحاد السوفيتي و لم يكسر الوزن الهائل للأعداد المقاومة الفنلندية إلا في شهر مارس و حتى في ذلك الوقت و خوفًا من تورط الحلفاء قام “ستالين” بإسقاط حكومة “أوتو كوسينن” و حصل الاتحاد السوفيتي على “برزخ كاريليان” و تغييرات حدودية معينة في الشمال و قاعدة على خليج “فنلندا” .

الاتحاد السوفيتي و الحرب العالمية الثانية

احتل الجيش الأحمر دول البلطيق و تم دمجها بالقوة في الاتحاد السوفيتي في صيف عام 1940 و أجرت السلطات السوفيتية انتخابات لإضفاء جو من الشرعية على الإجراءات لكن ترهيب أحزاب المعارضة كان واسع الانتشار و من غير المستغرب اقتراب معدل إقبال الناخبين المعلن رسميًا و هامش فوز المرشحين المؤيدين للاتحاد السوفيتي الى 100 في المائة كما كان الإجراء الآخر الذي كان من شأنه أن يكون له تداعيات في مجال الشؤون الخارجية هو الإعدام السري خلال الفترة من أبريل الى مايو عام 1940 لـ 15000 ضابط بولندي و آخرين أصبحوا أسرى حرب بعد الغزو السوفيتي لبلادهم في عام 1939 و مع استيلاء النازيين على “النرويج” و انهيار “فرنسا” و طرد “بريطانيا” من القارة تلاها انتصارات “ألمانيا” في “يوغوسلافيا” و “اليونان” ترك “الاتحاد السوفيتي” هدفًا محتملًا للهجوم النازي لكن “ستالين” (الذي أصبح في 6 مايو 1941 رئيسًا لمجلس مفوضي الشعب بالإضافة إلى السكرتير العام للجنة المركزية) خلص إلى أنه يمكن تجنب الغزو النازي و شعر أنه في أي حال من الأحوال لن يكون الغزو ممكنًا بالتأكيد في عام 1941 على الرغم من المعلومات الاستخباراتية من جميع الجهات بأن الجيش الألماني كان يحشد للهجوم الا انه تجاهل ذلك و أكد في 14 من يونيو عام 1941 أن كلا الطرفين يتقيدان بحلف و لكن في 22 من يونيو بدأ الغزو .

و رغم أنه تم إجراء بعض التحسينات في الجيش الأحمر نتيجة للحرب الروسية الفنلندية لكنه كان لا يزال يعاني من آثار التطهير و لم يكن يضاهي الألمان و تبع ذلك سلسلة من الكوارث و بحلول منتصف أكتوبر فرض العدو على لينينجراد حصارا خانقا و استولى على “كييف” و كان على أبواب “موسكو” و مع ذلك عندما بذل الألمان جهودهم النهائية في أوائل ديسمبر تم صدهم.

و على الرغم من الجهود الصناعية كان هناك في البداية نقص في الجانب السوفيتي حتى في البنادق و المدافع الرشاشة علاوة على ذلك اجتاح الألمان الكثير من مصنع الإنتاج و لكن تم نقل الكثير إلى الشرق و سرعان ما كانت المصانع المتاحة أو المعاد تنظيمها تزود الأسلحة بمعدل مثير للإعجاب و مع ذلك لم يكن هذا كافياً لولا الإمداد الهائل من المواد الحربية من القوى الغربية و على الرغم من أن المؤرخين السوفييت في أواخر القرن العشرين وصفوا محاولة مبكرة من قبل “ستالين” لصنع سلام منفصل مع “هتلر” بناءً على التنازلات الإقليمية السوفيتية الا أن سياسته الخارجية المعلنة خلال معظم الحرب تضمنت الضغط على حلفائه للحصول على مزيد من المعدات و لفتحهم “الجبهة الثانية” في أقرب وقت ممكن و من أجل اعترافهم بحدود الاتحاد السوفيتي التي تم إنشاؤها بموجب الاتفاقية النازية السوفيتية حيث كانت هذه الموضوعات الرئيسية في مؤتمر طهران (نوفمبر – ديسمبر 1943) و مؤتمر يالطا (فبراير 1945) و مؤتمر بوتسدام (يوليو – أغسطس 1945) حيث التقوا قادة الاتحاد السوفيتي و المملكة المتحدة و الولايات المتحدة .

جوزيف ستالين و فرانكلين روزفلت و وينستون تشرشل خلال مؤتمر يالطا

و بالإضافة إلى استعادة دول البلطيق و أوكرانيا الغربية و غرب بيلاروسيا تم الآن ضم الجزء الشرقي من شرق ” ألمانيا ” إلى “الاتحاد السوفيتي” و في أغسطس عام 1945 انضموا إلى الحرب ضد “اليابان” و اجتاحت القوات السوفيتية منشوريا و أقامت نظامًا شيوعيًا في “كوريا الشمالية” اضافة الى مكاسب إقليمية سوفيتية فى النصف الجنوبي من جزيرة “سخالين” بالإضافة إلى “بورت آرثر” و كلاهما كانوا ضما الى “اليابان” في عام 1905 و مع تقدم الجيوش السوفيتية في بلدان أوروبا الشرقية أصبحت القرارات السياسية بشأن مستقبل هذه الدول ملحة و تم الوعد بإجراء انتخابات ديمقراطية و تشكيل تحالفات بين الشيوعيين المحليين و جميع أو بعض الديمقراطيين المحليين و لكن تم الاستيلاء على حكومات أوروبا الشرقية واحدة تلو الأخرى بدءًا من “رومانيا” في أوائل عام 1945 عندما قدم نائب مفوض الشؤون الخارجية “أندري فيشينسكي” إنذارًا للملك “مايكل” لإقالة جميع الديمقراطيين من مناصبهم و بحلول أوائل عام 1947 كانت المنطقة بأكملها (باستثناء تشيكوسلوفاكيا) تحت السيطرة الشيوعية الكاملة بما في ذلك النظام الذي أسسته السلطات السوفيتية في ألمانيا الشرقية و كانت هذه التحركات مخالفة للاتفاقيات بين الحلفاء و كان هذا ليكون مصدر لمزيد من المواجهة الدولية.

ما بعد الحرب

كان النصر السوفييتي قد تحقق بشق الأنفس و تجاوزت التقديرات السوفيتية للقتلى بسبب الحرب 20 مليونًا منهم ما بين 8 إلى 9 ملايين جندى و كانت تضحيات و جهود الجيش و الكثير من السكان هائلة و كانت شعبية “ستالين” مرتفعة أيضًا رغم أنه خلال الحرب كان هناك بعض الاسترخاء السياسي و كانت النداءات موجهة إلى المشاعر الوطنية بدلاً من المشاعر الحزبية و كان يبدو أن المزاج العام للبلاد كان أملًا في التغيير لكن نهاية عام 1945 وبداية عام 1946 شهدت تشديدًا كبيرًا في الانضباط الأيديولوجي و السياسي ففي أوائل عام 1946 بدأت تغييرات فى صفوف قيادات الحزب الشيوعى اضافة الى موجة جديدة من الاعتقالات خاصة فى صفوف الظباط اضافة الى كتاب بارزين و تم البدء فى تطبيق سياسة جديدة تتعلق بالأيديولوجية الماركسية و الشوفينية لعزل فكر الدولة عن التأثير الغربي والديمقراطي كما أن ” ستالين ” لم يكن راضيا عن شيوعيين أوروبا الشرقية حيث تعرض المارشال “جوزيب بروز تيتو” من “يوغوسلافيا” لانتقادات لاذعة من ” ستالين ” بعد كشف نظامه بالكامل كعملاء لهتلر و وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) و المخابرات البريطانية .

و تلى ذلك المحاولة السوفيتية لطرد الحلفاء الغربيين من “برلين ” من خلال حصارها عامى ( 1948-1949 ) و التى أدت إلى اشمئزاز غالبية الرأي العام الغربي و تشكيل حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي كان هدفه منع التوسع السوفياتي في أوروبا و أصبح التوتر طويل الأمد بين الكتلتين يعرف باسم الحرب الباردة و التى كانت إحدى ظواهرها الرئيسية تطوير القنبلة الذرية السوفيتية في عام 1949 اضافة الى سماح “ستالين” بهجوم “كوريا الشمالية” على “كوريا الجنوبية” بشكل دعى الأمم المتحدة الى التدخل فى الحرب الكورية و فى غضون ذلك بدء ” ستالين ” بالشك فى أقرب مساعديه و بدء فى انتقادهم علنا و احيانا توجيه الاتهامات اليهم بالخيانة و فى يوم 5 من مارس عام 1953 توفى ” ستالين ” بجلطة دماغية .

جثمان ستالين

الاتحاد السوفيتي من 1953 إلى 1991

عصر خروتشوف

الانتقال

توفي “ستالين” في 5 من مارس عام 1953 و قد أصيب بجلطة دماغية في ليلة 1 – 2 مارس لكن لم يتم إدراك ذلك حتى الصباح بسبب خوف أمنه الشخصى من الدخول الى غرفته و اجتمعت القيادة العليا حول سريره لكنه لم يكن بإمكانه سوى تحريك إصبعه الصغير و كان “بيريا” سعيدا بوفاة رئيسه و أظهر ذلك و هذا أكسبه العداء الذي لا ينضب لـ “سفيتلانا” ابنة “ستالين” و كان الآخرون في الحاشية أكثر حذرا و وجدوا أنفسهم في مأزق و هو كيف يختارون خليفة ستالين؟ و كيف يضمنوا عدم حصول أي شخص على قوته الهائلة؟ لأن هذا من شأنه أن يعرض حياتهم المهنية و حتى حياتهم للخطر و كان البلد مرتبكًا أيضًا حتى في موته فخلال الجنازة الرسمية في 9 مارس تم سحق بعض الناس حتى الموت نتيجة تدافعهم لرغبتهم في تقديم تحياتهم الأخيرة للديكتاتور الميت و بعدها تم طرح فكرة القيادة الجماعية و عندما تم الاتفاق على التقسيم الأول للسلطة في 7 مارس كان المستفيدون الرئيسيون هم “مالينكوف” الذي أصبح رئيسًا لمجلس الوزراء أو رئيسًا للوزراء و “بيريا” الذي صعد ليصبح النائب الأول لرئيس الوزراء و رأس أيضًا الوزارة المدمجة لأمن الدولة و وزارة الداخلية و عاد “مولوتوف” إلى وزارة الخارجية و كان أيضًا النائب الأول لرئيس الوزراء و أصبح “بولجانين” وزيرا للدفاع و لتهدئة السكان ذكرت صحيفة “برافدا” أن القيادة الجماعية الجديدة ستمنع أي نوع من الفوضى أو الذعر و رغم ذلك الترتيب الا انه كان هناك الكثير من القوة المركزة في يد واحدة و كان المستفيد الرئيسي هو “نيكيتا خروتشوف” الذى أصبح مسؤولًا عن الحزب حيث أصبح لديه قاعدة قوة يمكن من خلالها مهاجمة اى فرد منهم .

و كان الهدف الأساسي للقيادة الجديدة هو ضمان الاستقرار في البلاد و فى نفس الوقت بدأ الصراع على السلطة في القمة و أطلق سراح سجناء من معسكرات العمل و سُمح لمن هم في المنفى بالعودة إلى المدينة التي يختارونها و كان هناك جو من التفاؤل و وعد بتفكيك أسوأ تجاوزات النظام القانوني الستاليني و أصبح هذا معروفًا باسم تعزيز الشرعية الاشتراكية و أطلق “مالينكوف” برنامج اقتصادي وعد فيه بمستويات معيشية أعلى و كذلك كان “بيريا” الذى حاول إعطاء الشرطة الأمنية صورة أفضل و شعر “خروتشوف” و آخرون بأن “بيريا” كان يستعد لانقلاب و تمكنوا من كسب “مالينكوف” و اعتقل “بيريا” في أواخر يونيو 1953 و أثناء استجوابه كان حريصًا جدًا على إفشاء أسرار كل خصومه السياسيين و وصل شهادته إلى 40 مجلدا كما كان صريحًا بشأن دوره كقائد لستالين و عن تفضيلاته الجنسية و شهد أنه استجوب شخصيًا العديد من السجناء و كان مبتهجًا بتعذيبهم و عندما تم إعدام “بيريا” في ديسمبر 1953 كان لا بد من تكميم أفواه لمنعهم من الكشف عن المزيد من المعلومات البغيضة لذلك تم الانتقام من مساعدي “بيريا” و إعدام أكثر من 20 شخصًا بعضهم في عام 1956 و كانت هذه آخر عمليات القتل ذات الدوافع السياسية للنظام السوفيتي و في عام 1954 أعيد تنظيم الشرطة السرية و أطلق عليها اسم KGB (لجنة أمن الدولة) او ما عرفت لاحقا باسم المخابرات السوفيتية و مع ذهاب “بيريا” أصبح ” مالينكوف ” هو المستهدف امام ” خروتشوف ” لذلك و خلال جلسة اللجنة المركزية في سبتمبر 1953 حيث أصبح “خروتشوف” السكرتير الأول للحزب كشف النقاب عن أوجه القصور في القطاع الريفي و بذلك تناقض مع تأكيد “مالينكوف” في مؤتمر الحزب التاسع عشر بأن مشكلة الحبوب قد تم حلها و نتيجة بعض من الخلافات و أخطاء فى سياسة ” مالينكوف ” اضطر إلى الاستقالة من منصب رئيس الوزراء في فبراير 1955 و تولى “بولجانين” زمام الأمور.

نيكيتا خروتشوف

و مع خروج ” مالينكوف ” شرع ” خروتشوف ” في تحسين العلاقات مع “الصين” و “يوغوسلافيا” لأن هذه كانت مسؤولية الحزب الشيوعي و زار “بكين” في سبتمبر عام 1954 و بعدها بعام زار “يوغوسلافيا” و قدم يد الصداقة الشيوعية للمارشال “تيتو” كما قام ” خروتشوف ” بخطوة أخرى مذهلة بتوقيع معاهدة السلام النمساوية في مايو 1955 و التى بها غادرت القوات السوفيتية دولة أوروبية لأول مرة منذ عام 1945 و لم يحدث هذا مرة أخرى حتى عام 1990 و لتصبح ” النمسا ” محايدة كما التقى بالرئيس الأمريكي “دوايت أيزنهاور” بـ “جنيف” في يوليو 1955 و كان الجو غير متجمد للغاية لدرجة أن الناس بدأوا يتحدثون عن “روح جنيف” و كانت “ألمانيا” هي القضية الرئيسية على جدول أعمال القمة حيث كانت “ألمانيا الغربية” قد انضمت لتوها إلى “حلف الناتو ” و ظهر “حلف وارسو” و هو تحالف بين الاتحاد السوفيتي و الدول التابعة في أوروبا الشرقية و بعد انتهاء القمة و خلال عودته الى بلده قابل “خروتشوف” زعيم جمهورية ألمانيا الديمقراطية ” والتر اولبريخت ” في برلين الشرقية و أكد له أن إنجازات ألمانيا الشرقية ستتم حمايتها و كان هذا بمثابة تغيير في السياسة السوفيتية حيث كان في السابق تهدف “موسكو” دائمًا إلى ألمانيا موحدة و تكون اشتراكية و لكن الأن اعترف الاتحاد السوفيتي بألمانيا ثنائية بل و أقيمت العلاقات الدبلوماسية مع ” ألمانيا الغربية ” في سبتمبر 1955 لغرض التبادل التجارى و عاد جميع أسرى الحرب الألمان المتبقين إلى ديارهم كجزء من الصفقة الا انه و رغم ذلك الانفتاح مع الغرب كان الامر مختلفا فى مناطق اخرى حيث قام ” خروتشوف ” بتحديهم فى الهند و ميانمار (بورما) و أفغانستان كما وجدت الأسلحة السوفيتية طريقها إلى الشرق الأوسط حيث ذهب الجزء الأكبر منها إلى “مصر” و أصبحت السياسة الخارجية السوفيتية أكثر عدوانية خاصة بعد تبنيها القضية العربية التي كان من المقرر أن تستمر لأكثر من ثلاثة عقود .

مؤتمر الحزب العشرون وما بعده

كان لدى “خروتشوف” رؤية خاصة بالنسبة الى الاتحاد السوفيتي على اساس ان تكون أرض تسودها الديمقراطية بتوجيه من الحزب و خاض مخاطرة كبيرة ففي “خطابه السري” الذي ألقاه في جلسة مغلقة في المؤتمر العشرين للحزب في فبراير 1956 هدم “خروتشوف” إرث “ستالين” منتقدًا طريقته في إدارة البلاد بعد عام 1934 حيث صدم الكشف عن جرائم “ستالين” المندوبين و قوض شرعية الحزب بشكل قاتل في الداخل و الخارج و يبدو أن دافع “خروتشوف” تأكيد وعده بأن الماضي الستاليني لن يتكرر أبدًا و أن الإكراه لن يطبق مرة أخرى على الساحة السياسية الا أن ذلك في الواقع كان بمثابة توجيه ضربة قاتلة للحزب الذى أصبح عرضة للخطأ مثل أي طرف آخر كما أنه فى المؤتمر أشار الى اعتناق التعايش السلمي و كانت حجته هي أن القوة النووية السوفيتية جعلت الحرب أقل احتمالية و بالتالي لم تعد حتمية حيث كان فكر ” خروتشوف ” بعكس ” ستالين ” يهدف إلى الاشتراكية الإنسانية لكنه رغم ذلك احتفظ بهياكل الستالينية فى احتكار الحزب الشيوعي للسلطة و الاقتصاد المخطط مركزيا و سيطرة الحزب على وسائل الإعلام و التعليم و الثقافة.

و كان لتبعات خطاب ” خروتشوف ” ردود فعل عنيفة دفعت الكثيرين الى انتقاد ليس نظام ” ستالين ” فقط و لكن الاتحاد السوفيتى نفسه و كان تأثيره صادما على أوروبا الشرقية و هدد قبضة موسكو على دول الستار الحديدى و وصلت الأحداث إلى ذروتها في “المجر” في أكتوبر عام 1956 عندما اضطرت القوات السوفيتية إلى قمع ثورة قادها الشيوعيون المحليين و كان هدفها الاستقلال عن “موسكو” و تم تحذير الشيوعيين البولنديين من تكرار ذلك فى بلدهم حيث لم يتردد “خروتشوف” في استخدام القوة في أوروبا الشرقية و هذا كشف حدود ليبراليته و أصبحت العلاقات مع “يوغوسلافيا” أكثر صعوبة أما ” الصين ” فقد دعمته علنًا و لكن في السر كانوا مستائين للغاية بشأن إزالة الستالينية و فشله في استشارتهم بشأن الخطاب السري حيث كان يرى “ماو تسي تونج” نفسه على أنه وريث “ستالين” و عميد القادة الشيوعيين و اعتبر “خروتشوف” هذا أمرًا سخيفًا و بدأت العلاقات الصينية السوفيتية في الانتقال من سيئ إلى أسوأ.

و نظرا الى المشاكل التى تعرض لها الاتحاد السوفيتي نتيجة سياسات ” خروتشوف ” كان عليه ضغوط فى يونيو 1957 لمطالبته بالتنحي و يصبح وزيرا للزراعة لكنه كان ماكرًا جدًا و استطاع بمؤامرة سياسية ازاحة كل من “مولوتوف و مالينكوف و كاجانوفيتش ” من هيئة الرئاسة و اللجنة المركزية و انتهت حياتهم المهنية السياسية حيث استغرق “خروتشوف” أربع سنوات ليحاكي معلمه “ستالين” ليتخلص من معارضيه و يصبح زعيمًا وطنيًا قويًا حيث تولى أيضا منصب رئيس الوزراء و كان في ذروة سلطته و قوته و أصبح الآن حرًا في إطلاق أي سياسة كان يفكر فيها و التى عارضها معظم مرؤوسيه الذين أعتبروها تهديدًا لسلطتهم و امتيازاتهم و هو ما جعل سلطاته تتأكل تدريجيا لاحقا .

و في 26 أغسطس 1957 أذهل الاتحاد السوفيتي العالم بإعلانه عن إطلاق ناجح لصاروخ باليستي عابر للقارات و في 4 أكتوبر تم إطلاق أول قمر صناعي “سبوتنيك 1” و تبعه في 3 نوفمبر “سبوتنيك 2” و كانت “الكلبة لايكا” على متنه و نتيجة تقدم السوفييت فى مجال الصواريخ أقتنع ” خروتشوف ” بأن القوات البرية أقل أهمية عن ذى قبل و هو ما دفعه إلى تقليص حجم الجيش و حاول ترجمة تقدم الاتحاد السوفيتي في مجال الصواريخ إلى نجاح دبلوماسي ملموس حين هدد الغرب بالصواريخ السوفيتية إذا تجرأ أحد على التفكير في مهاجمة الاتحاد السوفيتي و في عام 1959 قام بأول زيارة له إلى “الولايات المتحدة” و قدم دفاعًا قويًا عن السياسة السوفيتية لكنه لم يفز بأي تنازلات حقيقية بشأن “برلين” أو “ألمانيا” و في 1 مايو 1960 أسقطت طائرة استطلاع أمريكية في جبال الأورال على الأرض السوفيتية و تم القبض على الطيار “جاري باورز” و أدى ذلك إلى انهيار قمة باريس في نفس الشهر عندما طالب “خروتشوف” “أيزنهاور” بالاعتذار له شخصيًا و تدهورت العلاقات خلال الحرب الأهلية في “الكونغو” في أوائل الستينيات و بسبب بناء جدار برلين في عام 1961 و أثناء أزمة الصواريخ الكوبية في أكتوبر 1962 و قد أدى ذلك إلى دخول القوتين إلى حافة الحرب النووية و بعدها حدثت انفراجه و وقع الاتحاد السوفيتي و الولايات المتحدة و المملكة المتحدة معاهدة حظر التجارب النووية في أغسطس 1963 و أقيمت اتصالات مباشرة بين “موسكو” و “واشنطن” و فى المقابل سائت العلاقات مع “الصين” خاصة بعد احجام ” موسكو ” عن استخدام قوتها النووية لمساعدة الصين على استعادة “تايوان” و الجزر الأخرى .

خروتشوف و الرئيس الأمريكى أيزنهاور

سقوط خروتشوف

نتيجة سباق التسلح ذهبت توقعات المواطنين السوفييت فى أن تتحسن مستويات معيشتهم الى ادراج الرياح كما أن “خروتشوف” كان في كثير من الأحيان أسوأ عدو لنفسه حيث أطلق العديد من المبادرات الصناعية و الزراعية لكن النتيجة الصافية كانت انخفاض معدلات النمو بشكل عام و قدر المتخصصون أنه بين عامي 1961 و 1965 تباطأت الزيادة السنوية في الناتج القومي الإجمالي في الاتحاد السوفيتي إلى 5 في المائة حيث أدرك “خروتشوف” و بشكل صحيح أن جهاز الحزب كان هو العائق الرئيسي أمام التقدم الاقتصادي و لذلك في محاولة لتنشيطه قام بتقسيمه إلى فروع صناعية و زراعية منفصلة في نوفمبر 1962 و قد جعله هذا غير محبوب بشكل كبير و سرع من مغادرته المنصب الرفيع حيث عقدت مؤامرة للاطاحة به في فبراير 1964 و قد ترأسها “ليونيد بريجنيف” و “نيكولاي بودجورني” و “ألكسندر شليبين” الرئيس السابق للكي جي بي مع “فلاديمير سيميشاستني” رئيس المخابرات السوفيتية آنذاك حيث أعيد “خروتشوف” من عطلة على البحر الأسود في أكتوبر 1964 لمواجهة رئاسة الحزب و هذه المرة صوتت اللجنة المركزية ضده و تم تجريده من منصبه في 14 أكتوبر و وجهت له 15 تهمة من بينها القيادة الخاطئة و اتخاذ قرارات متسرعة و غير مدروسة و إهانة زملائه و تطوير عبادة شخصيته و اعتبار نفسه خبيرًا في كل ما يتصل به و بأنه غير حساس في الشؤون الخارجية (أشار ذات مرة إلى ماو تسي تونغ بأنه حذاء قديم و في مناسبة أخرى أخبر تودور زيفكوف الزعيم البلغاري أن جميع البلغار هم طفيليات ) و إنفاق الكثير من السخاء لدول العالم الثالث و غيرها .

و بشكل عام كان “خروتشوف” جيدًا لكل من الاتحاد السوفيتي و العالم حيث بدأ الديموقراطية فى البلاد و التي توقفت في عهد “بريجنيف” و لكن “جورباتشوف” دفعها إلى الأمام مجددا كما أنه سعى لتحرير الاقتصاد من الاحتضان الخانق للبيروقراطية و في الشؤون الخارجية حاول التقارب مع الغرب و في النهاية كانت جميع سياساته تقريبًا فاشلة لكنه زرع بذورًا ستؤتي ثمارها بعد ربع قرن .

عصر بريجنيف

القيادة الجماعية

بعد رحيل ” خروتشوف ” ترأس القيادة الجماعية الجديدة “ليونيد بريجنيف” السكرتير الأول للحزب و “ألكسي كوسيجين” رئيس الوزراء و “نيكولاي بودجورني” الذي أصبح رئيسًا في ديسمبر 1965 و تم توحيد الفروع الصناعية و الزراعية لجهاز الحزب و تمت إزالة القيود المفروضة على حجم قطع الأراضي المنزلية و الماشية الخاصة في المزارع الجماعية و عادت الوزارات المركزية للظهور مع اختفاء المجالس الإقليمية و في المؤتمر الثالث و العشرين للحزب في مارس-أبريل 1966 أصبح “بريجنيف” أمينًا عامًا للحزب و هو آخر منصب شغله “ستالين” في عام 1934.

ليونيد بريجنيف و ألكسى كوسيجين

و بين عامي 1964 و 1968 كان على “بريجنيف” أن يلعب دور الرجل الثاني لأليكسي كوسيجين الذي تولى القيادة في الإصلاح الاقتصادي و السياسة الخارجية و كانت الظروف في صالح “بريجنيف” حيث أن العودة إلى الستالينية قوضت إصلاحات “كوسيجين ” الاقتصادية و تضاءل نجمه و هو ما عزز سلطة ” بريجنيف ” و بحلول أوائل السبعينيات كان الأول بين أنداده و بحلول منتصف السبعينيات كان الزعيم الوطني و تخلص من “بودجورني” عام 1977 و ارتدى عباءة الرئيس حيث استغرق الأمر وقتًا أطول من “خروتشوف” ليصبح زعيمًا وطنيًا لكن ذلك كان بسبب تراكم السلطة تدريجياً بدلاً من تبني استراتيجية عالية المخاطر مثل سلفه حيث ابتكر “اشتراكية متطورة” و هذا يعني أن الطريق إلى الشيوعية سيكون أطول مما كان متوقعًا في السابق و أن الدولة بحاجة إلى إعطاء الأفضلية لأولئك الذين يتقنون المهارات المختلفة خاصة فى قطاع التكنولوجيا و الذى سيعود بالافادة على الجميع و هى سياسة رفضها “جورباتشوف” لاحقا و وصفها بأنها “ركود” و كان هذا غير عادل فخلال النصف الأول من ولاية “بريجنيف” وصل الاتحاد السوفيتي إلى أوج قوته و مكانته الدولية خاصة بعد اعتراف “الولايات المتحدة” بالتكافؤ النووي ثم سارت الأمور بعدها بشكل خاطئ حيث كان التباطؤ الاقتصادي مصحوبًا بزيادة الإنفاق الدفاعي و القرار الكارثي بالتدخل في “أفغانستان” في ديسمبر 1979 و بحلول وقت وفاة “بريجنيف” في نوفمبر 1982 كان الاتحاد السوفيتي في حالة تدهور شديد .

التقشف الثقافي

كان “بريجنيف” محافظًا و لم يكن لديه تعاطف كبير مع الفن و الأدب حيث كان يفضل الفن و الأدب اللذين أشادا بالنظام السوفيتي و في سبتمبر 1965 ألقي القبض على الكاتبين “أندريه سينيافسكي و يولي دانيال” و حُكم عليهما فيما بعد بالأشغال الشاقة سبع سنوات و خمس سنوات على التوالي لنشرهما أعمالًا في الخارج شوهت سمعة الدولة السوفيتية و على مدى السنوات التالية تم أيضًا اعتقال العديد من الكتاب و المتعاطفين معهم أو سجنهم أو وضعهم في معسكرات العمل و بعد حرب الأيام الستة عام 1967 بين إسرائيل و الدول العربية اتخذت الهجمات على “إسرائيل” و الصهيونية نبرة معادية للسامية و ازداد القمع الثقافي حتى قبل غزو “تشيكوسلوفاكيا” في عام 1968 و سحقت قوة الدولة المعارضة الثقافية العلنية و عملت على تطوير ثقافة مضادة و لكنها لم تكن غير كافيه حيث سمح وصول الكاسيت الصوتي و لاحقًا شرائط الفيديو للشباب بالاستمتاع بثقافة البوب الغربية و أدى انتشار تدريس اللغات الأجنبية و خاصة الإنجليزية إلى تسريع هذه العملية و ربما فقدت الدولة و KGB السيطرة على الثقافة في منتصف السبعينيات و أصبحت الثقافة غير الرسمية نابضة بالحياة و اكثر ديناميكية في حين ضمرت الثقافة الرسمية .

السياسة الخارجية

شرعت قيادة “بريجنيف” في تحسين العلاقات مع العالم الخارجي و إثبات أن الاتحاد السوفيتي كان دولة رصينة و يمكن التنبؤ بها و مع ذلك تراجعت العلاقات مع “الصين” بشكل مثير للقلق مما أدى إلى نزاع مسلح على طول نهر أوسوري في مارس 1969 و على طول الحدود السوفيتية سينكيانغ في أغسطس و اتفق الجانبان على التفاوض لكن السوفييت عززوا وجودهم العسكري على طول الحدود الصينية كما قدموا مساعدات عسكرية إلى “الهند” و “باكستان” و “فيتنام الشمالية” في محاولة لمواجهة النفوذ الصيني هناك .

و في أوروبا الشرقية تدخلت دول حلف وارسو (باستثناء رومانيا و ألمانيا الشرقية) بقيادة الاتحاد السوفيتي في “تشيكوسلوفاكيا” في 20-21 أغسطس 1968 و كان هذا لقمع “الاشتراكية بوجه إنساني” و هي سياسة مرتبطة بتشيكوسلوفاكيا و تهدف إلى جعل الاشتراكية أكثر ديمقراطية و إنسانية و هو أمر كان يُنظر إليه على أنه تهديد للاستقرار في المنطقة و في نهاية المطاف في الاتحاد السوفيتي نفسه أما ” رومانيا ” التي تمكنت من إقناع “موسكو” بسحب قواتها من البلاد التى كانت تحت قيادة “نيكولاي تشاوشيسكو” فقد أصبحت قومية بقوة و أعادت توجيه تجارتها الخارجية بعيدًا عن الكتلة السوفيتية و أبرمت اتفاقية تجارية مع “الولايات المتحدة” في عام 1964 و وسعت اتصالاتها مع الغرب كما فقد الاتحاد السوفيتي ماء وجهه في العالم العربي عام 1967 بفشله في مساعدة العرب خلال الحرب العربية الإسرائيلية إلا أنه بدأ بعد ذلك في إعادة تسليحهم و خاصة “مصر” أما في أوروبا الغربية حاول الاتحاد السوفيتي التودد إلى “فرنسا” التي سحبت قواتها من “الناتو” و تسببت سياسة “ألمانيا” في بعض القلق حيث أصبحت “ألمانيا الشرقية” أكثر تأكيدًا على الذات و أطلقت برنامجًا اقتصاديًا جديدًا .

و توترت العلاقات مع “الولايات المتحدة” بعد القصف الأمريكي لفيتنام الشمالية في أوائل عام 1965 لكنها تحسنت لاحقًا حيث وقعت الولايات المتحدة و الاتحاد السوفيتي و المملكة المتحدة معاهدة الفضاء الخارجي التي تحظر وضع الأسلحة النووية في المدار في يناير عام 1967 و عادت التوترات مجددا مع الحرب العربية الإسرائيلية لكن كلاً من موسكو و واشنطن سعيا إلى عدم اتساع الحرب إلى صراع سوفيتي أمريكي مباشر و لم تهدد المأساة التشيكوسلوفاكية السلام العالمي لأن “الولايات المتحدة” أدركت أن “الاتحاد السوفيتي” كان يتصرف داخل منطقته الأمنية و في 26 من مايو عام 1972 وقع الرئيس الأمريكي “ريتشارد نيكسون” و “بريجنيف” في “موسكو” أول اتفاقية سالت (معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية) و التي اعترفت بأن الحرب النووية لم تعد خيارًا ممكنًا و في العام التالي في “واشنطن” العاصمة وقع الاثنان اتفاقية تهدف إلى تجنب الحرب النووية .

الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون و بريجنيف

و كانت منتصف السبعينيات فترة نجاح كبير في السياسة الخارجية ففي عام 1975 أكملت “فيتنام الشمالية” انتصارها على الجنوبية و أجبرت “الولايات المتحدة” على الانسحاب المخزي و كانت “كمبوديا و لاوس” الآن بقوة في المعسكر الشيوعي و استولت الأنظمة الموالية للاتحاد السوفيتي على “أنجولا و موزمبيق” و مستعمرات برتغالية سابقة أخرى و غيرت “موسكو” مواقفها في القرن الأفريقي و تخلت عن “الصومال” لصالح “إثيوبيا” و جنوب اليمن مع ميناء عدن المهم أصبح حليفًا قويًا للسوفييت و في “أفغانستان” أدى انقلاب دموي إلى قيام حكومة وقعت معاهدة صداقة مع “موسكو” و هى كلها أمور أثارت قلق “واشنطن” حيث كان يبدو أن القوة العسكرية السوفيتية تنتشر بلا هوادة في جميع أنحاء العالم و نتيجة لذلك تم التوقيع على معاهدة SALT II في “فيينا” في يونيو 1979 من قبل الرئيس الأمريكي “جيمي كارتر” و “بريجنيف” .

و فى ديسمبر عام 1979 تدخل الاتحاد السوفيتي في أفغانستان خوفًا من أن يستولي نظام مناهض للسوفييت على السلطة هناك حيث استخف السوفييت بتماسك المقاومة الإسلامية و أساءوا تقدير رد الفعل الأمريكي تمامًا حيث لم يقدم الرئيس كارتر معاهدة SALT II للتصديق على مجلس الشيوخ الأمريكي و فرض حظراً على صادرات الحبوب و ما كان المسمار الأخير في نعش “بريجنيف” هو انتخاب “رونالد ريجان “رئيسًا للولايات المتحدة في نوفمبر 1980 حيث كان “ريجان” مصممًا على زيادة الإنفاق الدفاعي للولايات المتحدة بسرعة ليس لتعزيز الأمن الأمريكي فقط و لكن أيضًا لإجبار “موسكو” على أن تحذو حذوه حيث تم إخطاره بأن الارتفاع الحاد في ميزانية الدفاع السوفيتية سيكون له عواقب وخيمة على الاقتصاد السوفيتي و ثبت أن هذا صحيح و في عام 1979 و ردًا على النشر السوفيتي لصواريخ باليستية متوسطة المدى من طراز SS-20 تستهدف أوروبا الغربية قرر “الناتو” نشر صواريخ كروز و صواريخ بيرشينج 2 الباليستية بدءًا من ديسمبر 1983 و بدأت محادثات خفض الأسلحة الاستراتيجية (START) في “جنيف” في يونيو 1982 .

و كتقييم شامل كانت السياسة الخارجية و الأمنية السوفيتية منذ منتصف السبعينيات فصاعدًا كارثة لا يمكن تخفيفها حيث تسبب توسع الأنظمة الشيوعية في جنوب شرق آسيا و الشرق الأوسط و أفريقيا في مبالغة الغرب في رد فعلهم ايمانا منهم بأنه يجب إيقاف المد الشيوعي اضافة الى انه كانت “فيتنام” حليفا متمردا و “اليمن” و الأنظمة الأفريقية دائما منخرطة في صراع داخلي دموي و دفعت “موسكو” ثمناً باهظاً لسوء تقديرها في “أفغانستان” و كشف سوء تقديرهم الفاضح للتصميم الغربي على نشر صواريخ كروز و بيرشينج 2 كيف أصبح صانعو القرار في “موسكو” الذين يهيمن عليهم الجيش السوفيتي و أدت سلسلة الإخفاقات الطويلة إلى تقويض الثقة العسكرية السوفيتية لدرجة أنهم أصبحوا يعتقدون أن الغرب كان يخطط لهجوم نووي على الاتحاد السوفيتي .

فترة خلو العرش: أندروبوف و تشرنينكو

قرب نهاية حياته فقد “بريجنيف” السيطرة على البلاد و أصبحت الإقليمية أقوى مع تعثر المركزيه و عندما توفي في 10 من نوفمبر عام 1982 خلفه “يوري أندروبوف” كزعيم للحزب و الذى كان رئيسًا لجهاز المخابرات السوفيتية فى الفترة من 1967 إلى مايو 1982 ثم تسلل إلى سكرتارية اللجنة المركزية و بحلول يونيو 1983 أصبح “أندروبوف” رئيسًا لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية و رئيسًا لمجلس الدفاع و جميع المناصب التي شغلها “بريجنيف” حيث كان هو الرجل الأكثر اطلاعا في الاتحاد السوفيتي و شرع في إصلاح البلاد لكنه كان مصلحًا حذرًا معتقدًا أنه لا يوجد شيء خاطئ و جوهري في النظام الاشتراكي و لكن كان يعتقد أن المزيد من الانضباط و الطاقة و المبادرة من شأنه أن يغير الأمور و كان أسلوب قيادته في تناقض حاد مع أسلوب “بريجنيف” الفخم و الفاخر حيث قلص الامتيازات و التقى بالعمال في أرضية المحل و كانت سياسته الصناعية و الزراعية معقولة تمامًا و لكنها غير فعالة لأن الاقتصاد كان بالفعل في حالة تدهور نهائي .

و في عهد “أندروبوف” برزت مجموعة من الإصلاحيين الحذرين إلى الصدارة من بينهم “ميخائيل جورباتشوف” حيث أراد “أندروبوف” أن يخلفه “جورباتشوف” و أضاف فقرة بهذا المعنى إلى تقريره إلى الجلسة المكتملة للجنة المركزية التي لم تنعقد إلا بعد وفاته في 9 من فبراير عام 1984 و مع ذلك أصبح “جورباتشوف” سكرتيرًا “ثانًيا” وكان مسؤولاً عن رئاسة اجتماعات المكتب السياسي عندما كان “تشيرنينكو” غائبا و الذى نجح كزعيم للحزب بعد أن فشل في السابق و نما امتياز الحزب مرة أخرى و في ظل سلطة “تشيرنينكو” لم يكن لدى الجيش كل شئ حيث أزاح رئيس الأركان المارشال “نيكولاي أوجاركوف” واستبدله بالمارشال “سيرجي أكرومييف” بعد أن أُلقي اللوم على “أوجاركوف” بسبب ترويجه العدواني لبرنامج صواريخ SS-20 و إسقاطه لطائرة كورية الرحلة 007 التى كان على متنها 269 راكبًا و طاقمًها بعد أن ضلّت طريقها إلى المجال الجوي السوفيتي في سبتمبر 1983 و تسببت فى غضب دولي عارم .

عصر جورباتشوف

خلافة جورباتشوف

كان من الواضح أنه يوجد اتفاق ضمني بين أعضاء المكتب السياسي على أن “جورباتشوف” هو من سيتولى القيادة بعد وفاة “تشيرنينكو” لكن البعض منهم كان لديه أفكار أخرى حيث قرر كل من “جريجوري رومانوف” سكرتير اللجنة المركزية للاقتصاد العسكري و رئيس الحزب السابق في “لينينجراد” و “فيكتور جريشين” زعيم حزب “موسكو” محاولة تولي أعلى منصب في البلاد و هو منصب زعيم الحزب و حدث صراعًا على السلطة و قام وزير الخارجية السوفيتي “أندريه جروميكو” و رئيس لجنة مراقبة الحزب “ميخائيل سولومينتسيف” و رئيس الكي جي بي “فيكتور تشيبريكوف” بضمان فوز ” جورباتشوف ” حيث عقدت جلسة مكتملة النصاب على عجل في 11 مارس 1985 و التي أكدت “جورباتشوف” كزعيم رغم أنه لم يكن حوالي ثلث الأعضاء حاضرين و بدء فى سلسلة من حملات التطهير لتطبيق سياسته المستقبلية من خلال وضع فريق الإصلاح المعتدل الجديد في أماكنهم .

ميخائيل جورباتشوف

الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية

عندما تولى “جورباتشوف” منصبه في مارس 1985 كان واضحًا بشأن تفضيلاته السياسية ففي خطاب ألقاه في 10 من ديسمبر عام 1984 تحدث عن الحاجة إلى إحداث تحولات عميقة في الاقتصاد و نظام العلاقات الاجتماعية برمته لتنفيذ سياسات البيريسترويكا و الجلاسنوست و شدد على الحاجة إلى مزيد من العدالة الاجتماعية و دور أكثر أهمية للسوفييتات المحلية و مشاركة أكبر من قبل العمال في مكان العمل حيث كان هدفه هو إطلاق ثورة يتم التحكم فيها من الأعلى لجعل النظام السوفيتى أكثر كفاءة و بالطبع فى ظل الدور القيادي للحزب و الاتجاه المركزي للاقتصاد .

و واصل “جورباتشوف” إصلاحات “أندروبوف” و أصر على تسريع النمو الاقتصادي و تحدث عن “تحسين” النظام و تم إعطاء الأفضلية لبناء الآلات حيث احتلت السلع الخفيفة و السلع الاستهلاكية المرتبة الثانية و كان هناك المزيد من الابتكار التقني و انضباط العمال و كان متحمسًا لحملة مكافحة الكحول حتى انه أطلق عليه لقب “الأمين العام للمياه المعدنية” و كل هذا أدى إلى نتائج إيجابية قليلة لأنه تغاضى عن النقطة الواضحة المتمثلة في أن العمال يحتاجون إلى حوافز أكبر إذا أرادوا تقديم أفضل ما لديهم لذلك أدت سياسته إلى انخفاض في السلع الاستهلاكية المتاحة و لم تزدهر الزراعة و تحدث “جورباتشوف” في المؤتمر السابع و العشرين للحزب عن الحاجة إلى إصلاحات بعيدة المدى لتحريك الاقتصاد حيث ظهر أول دليل واضح على أنه و أنصاره قد تحركوا إلى الهجوم ضد نظام الحزب الحالي في المؤتمر.

و تم اختبار سياسة “الجلاسنوست” الخاصة بالمصارحة و الشفافية في 26 من أبريل عام 1986 عندما انفجر مفاعل في محطة تشيرنوبيل النووية و انتظر “جورباتشوف” 18 يومًا قبل أن يظهر على شاشة التلفزيون ليقدم وصفًا لأسوأ كارثة نووية في التاريخ حيث كان لتشرنوبيل تأثير سلبي عميق على تفكير السكان حول الطاقة النووية و بعد ذلك أصبح النظام أكثر انفتاحًا بشأن الكوارث الطبيعية و تعاطي المخدرات و الجريمة و بدأت تلك السياسة فى السيطرة و أنتجت قدرًا أكبر من حرية التعبير و النقد الصريح للنظام السياسي و سعى “جورباتشوف” لكسب المثقفين من خلال إعادة الفيزيائي المنشق أندريه ساخاروف و زوجته ” يلينا بونر” إلى “موسكو” حيث كان يُنظر إلى أن دعم المثقفين له سيكون حاسما إذا أراد الفوز بالمعركة مع البيروقراطية اما سياسة ” البيريسترويكا ” فقد ركزت في البداية على الإصلاح الاقتصادي و تم تشجيع الشركات على أن تصبح ذاتية التمويل و أنشئت التعاونيات من قبل مجموعات من الناس كشركات تجارية و يمكن تأجير الأراضي للسماح بالزراعة الأسرية لكن البيروقراطيين الذين أداروا الاقتصاد كانوا محقين في خشيتهم من أن تؤدي هذه الأنشطة إلى تقويض امتيازاتهم و سلطاتهم لذلك تم فرض ضرائب كبيرة على التعاونيات و كان من الصعب شراء الإمدادات و كان الجمهور في كثير من الأحيان معاديًا لتلك السياسة .

إعادة الهيكلة السياسية

كانت إحدى المشاكل الرئيسية لجورباتشوف أنه لم يكن هناك اتفاق في القمة حول ما يجب أن تحققه البيريسترويكا و الجلاسنوست و الدمقرطة حيث كان المصلحين الراديكاليين مثل “جورباتشوف و ياكوفليف و شيفرنادزه ” محاصرين من قبل الإصلاحيين المعتدلين “ليجاتشيف و ريجكوف و آخرين ” و تفاقمت المشكلة بسبب عدم الوضوح في تفكير “جورباتشوف” حيث لم يكن قادرًا أبدًا على بناء هدف متماسك و وضع وسائل للوصول إليه و قادته إحباطاته من جهاز الحزب إلى صياغة حل جذري للغاية لإضعافه و هو استبعاده من المشاركة اليومية في إدارة الاقتصاد و إنهاء هيمنته على المجلس التشريعي للولاية و شؤون الحزب و حقق هذا الإنجاز في مؤتمر الحزب التاسع عشر في يونيو 1988 و بذلك فقد الحزب دوره المهيمن في قلب العملية السياسية لكنه انتقم من “جورباتشوف” من خلال تعزيز سلطته في الأطراف لمضايقته .

و تكرر النمط الجديد في القمة في كل جمهورية و لكن غالبًا ما كان يُهزم المسؤولين الشيوعيين الذين شجعهم “جورباتشوف” على الوقوف حتى عندما كانوا المرشح الوحيد و ذلك من أجل أن يتم انتخابه و سمحت “الجلاسنوست” للجنسيات غير الروسية بالتعبير عن معارضتهم للهيمنة الروسية و الشيوعية و أدى ذلك إلى نمو القومية و الإقليمية و قد تفاقم هذا الشعور بسبب التدهور الاقتصادي خاصة في جمهوريات البلطيق حيث قال الكثيرين بأنهم يستطيعون إدارة شؤونهم الاقتصادية بشكل أفضل من “موسكو” و اشتد الصراع بين الأعراق و أدى في بعض الأحيان إلى إراقة الدماء حيث كان الصراع في “ناجورنو كاراباخ” و هو جيب يهيمن عليه الأرمن في أذربيجان الأكثر عنفًا و مرارة كما أصبحت سياسة التعددية الحزبية شرعية في عام 1990 عندما أزيلت المادة 6 من الدستور التي كانت تضمن الاحتكار الشيوعي حيث ظهرت الآلاف من الجمعيات غير الرسمية ثم الأحزاب و وحدت الجبهات الشعبية و على الأخص في بحر البلطيق كل المعارضين لحكم “موسكو” و الساعين إلى الاستقلال و في مارس 1990 ذهبت “ليتوانيا” إلى أبعد من ذلك و أعلنت نفسها مستقلة و نتيجة لذلك أصبح بقاء الاتحاد السوفيتي مشكلة.

و سرعان ما سئم جورباتشوف من “المظهر الجديد” لنظام الحكم السوفيتى و حاول البحث على نطاق أوسع نموذج يحتذى به و اختار في النهاية الرئاسة التنفيذية على أساس مزيج من الرئاسة الأمريكية و الفرنسية و لذلك كان بحاجة إلى نائب رئيس و لسوء الحظ اختار “جينادي ياناييف ” و تم إلغاء مجلس وزراء الاتحاد السوفيتي و استبداله بمجلس وزراء تابع للرئيس و على الورق حقق “جورباتشوف” طموحه فقد كان صانع القرار الرئيسي و ديكتاتورًا دستوريًا و رغم ذلك الا أن السلطة المصاحبة لمنصب الرئيس في “الولايات المتحدة” و “فرنسا” لم تنتقل إليه بشكل كامل و كانت ناقصة و فى غضون ذلك كانت معارضة “البيريسترويكا” و الاصلاحات الاقتصادية أعنف حيث كان الإصلاحيين لديهم يقين أن الحزب و جهاز الدولة كانا المسئولين في عرقلة الإصلاحات التي اعتبروها معادية لمصالحهم فخلال السنوات الثلاث الأولى أطلق “جورباتشوف” سلسلة من الإصلاحات و في كل مرة واجه معارضة من حزب المحافظين و في مؤتمر الحزب التاسع عشر في يونيو 1988 كان هناك أمام “جورباتشوف” خيارًا صارمًا اما التقدم و تحويل “البيريسترويكا” إلى أمر حقيقي و ملموس او ثورة ديمقراطية شعبية و قاوم الحزب الشيوعي المسيرة نحو الديمقراطية .

السياسة الإقتصادية

كان الركود الاقتصادي في أواخر عهد “بريجنيف” نتيجة عوامل مختلفة و هى استنفاد الموارد المتاحة بسهولة خاصة المواد الخام و اختلال التوازن الهيكلي المتزايد للاقتصاد و في ظل “البيريسترويكا” انتقل الاقتصاد من حالة ركود إلى أزمة و اعترف “جورباتشوف” في عام 1988 أن السنتين الأوليين قد ضاعت لأنه لم يكن على دراية بعمق الأزمة عندما تولى السلطة و كان هذا بيان غير عادي أدلى به زعيم سوفيتى و كان الناتج القومي الإجمالي السوفييتي راكدًا تقريبًا خلال السنوات الأربع الأولى و لم ينخفض و ظلت البطالة عند حوالي 4 في المائة من القوة العاملة معظمها في مناطق فائضة العمالة في آسيا الوسطى و القوقاز و ظل التضخم المفتوح منخفضًا حتى عام 1989 و مع ذلك أشارت الاتجاهات الأساسية إلى فشل منهجي و بحلول منتصف عام 1990 كان نادرًا ما يتم بيع أكثر من 1000 سلعة استهلاكية أساسية و انتشر التقنين على نطاق واسع حيث تم بيع معظم السلع في مكان العمل و فقد بنك الدولة السيطرة على النمو النقدي و كانت المزايا الاجتماعية التي تصل إلى حوالي ربع الدخل الإجمالي للأسرة متواضعة دائمًا بالمعايير الدولية و مع ذلك فقد زادت في عام 1990 بنسبة 21 في المائة نتيجة تصويت مجلس نواب الشعب في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية على مجموعة كاملة من المزايا و المعاشات التقاعدية بشكل ملحوظ و لكن نظرًا لعدم وجود موارد لتغطية هذه النفقات الإضافية نما عجز فى الميزانية و التى وصلت الى 10% عام 1988 .

و خلال الفترة بين عامي 1985 و 1987 زادت قيادة “جورباتشوف” من الإنفاق الاستثماري و الدفاعي بينما كانت إيرادات الدولة في نفس الوقت تنخفض بسبب انخفاض مبيعات الكحول و انخفاض أسعار سلع التصدير و منذ عام 1988 أصبح الوضع مريعا و في عام 1991 كان الاقتصاد يواجه الانهيار التام و وجدت الحكومة صعوبة متزايدة في التدخل بشكل حاسم و خفض قانون مؤسسات الدولة من سلطة الوزارات و في نفس الوقت تم تخفيض عدد المسؤولين بشكل حاد أما الذين بقوا فقد طغى عليهم عبء العمل و نظرًا لعدم وجود سيطرة فعالة من “موسكو” أدى ارتفاع القومية و الصراع العرقي و الإقليمي إلى تجزئة الاقتصاد إلى عشرات الاقتصادات الصغيرة و سعت العديد من الجمهوريات إلى الاستقلال و اتبعوا جميعًا سياسات الاكتفاء الاقتصادي الذاتي و كانت المقايضة منتشرة على نطاق واسع و قدمت “أوكرانيا” القسائم و أصدرت “موسكو” البطاقات التموينية.

و عانت التجارة الخارجية و أدى انخفاض أسعار النفط و التجزئة الاقتصادية إلى ارتفاع ديون العملة الصعبة من 25.6 مليار دولار أمريكي في نهاية عام 1984 إلى حوالي 80 مليار دولار أمريكي في نهاية عام 1991 و انخفضت الواردات من الغرب بشكل حاد بين عامي 1985 و 1987 و قد عبر الجمهور عن إحباطه و أدى هذا إلى انعكاس كامل و ارتفعت الواردات من الغرب بنسبة 50 في المائة تقريبًا بين عامي 1987 و 1989 و نتيجة لذلك و بحلول عام 1989 لم يعد السوفييت قادرين على تسديد ديونهم بالعملة الصعبة في الوقت المحدد و تلقى “جورباتشوف” الكثير من النصائح حول كيفية حل الأزمة الاقتصادية في الاتحاد السوفيتي و كان هناك حلان أساسيان الحل الاشتراكي و حل السوق حيث انقسم المساعدين حول ذلك الحلين و لم يستطع “جورباتشوف” اتخاذ قرار و حاول دائمًا إقناع المجموعتين بتجميع مواردهما و التوصل إلى حل وسط و بعدها اعتقد الراديكاليين أنهم أقنعوا “جورباتشوف” بتقديم برنامج مدته 500 يوم كان من شأنه أن ينفذ اقتصاد السوق لكنه غير رأيه و انحاز إلى المحافظين بسبب أنه لم يريد أن يخاطر بارتفاع حاد في الأسعار بسبب الخوف من الاضطرابات الاجتماعية و كان هذا خطأ فادحًا.

السياسة الخارجية

مثل “خروتشوف” كان “جورباتشوف” أكثر شهرة في الخارج منه في الداخل و أثبت أنه دبلوماسي لامع و لأول مرة ردم الهوة بين الزعيم الشيوعي السوفيتي و الجمهور الغربي حيث كان ودودًا و سهل الوصول إليه و كان مؤديًا ماهرًا على شاشة التلفزيون و كانت هذه هي الرسالة التي كان الغرب ينتظر عقودًا لسماعها حيث كان تفكيره السياسي الجديد هو إزالة الأيديولوجية من صنع السياسة الخارجية و الأمنية و القول إن جميع الدول مترابطة و إذا لم يتحدوا فسيكون الكوكب بأكمله في خطر و اقترح إزالة جميع الأسلحة النووية بحلول عام 2000 و إقامة نظام للأمن الشامل و هو عقيدة عسكرية تؤكد الاكتفاء المعقول و تعترف بتعقيد العالم الحديث و أشار إلى تغيير في موقف “الاتحاد السوفيتي” تجاه الأمم المتحدة في ديسمبر 1988 عندما أشاد في خطاب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بدورها في تعزيز السلام والأمن الدوليين و أعلن تخفيض القوات المسلحة السوفيتية بمقدار 500 ألف جندي خلال العامين التاليين بما في ذلك خفض عدد الفرق في أوروبا و آسيا و كذلك سحب العديد من الدبابات على الرغم من أن هيئة الأركان العامة السوفيتية التي احتكرت سياسة الدفاع والأمن لم تكن مقتنعة تمامًا بهذه الخطوة و طوال حقبة “جورباتشوف” كانت هيئة الأركان العامة أكثر محافظة من الزعيم الوطني و أصبحت أكثر جرأة في معارضتها له مع مرور الوقت.

و بدأ “جورباتشوف” في إنهاء “الحرب الباردة الجديدة” التي اندلعت في أواخر السبعينيات و كان أحد الأسباب الرئيسية لذلك هو أن القيادة الجديدة توصلت إلى استنتاج مفاده أن عبء الدفاع كان يشل الاتحاد السوفيتي و انعقدت القمة الأولى بين ريجان و جورباتشوف في جنيف بنوفمبر 1985 و اقترح بيان مشترك تخفيض الترسانة النووية للقوى العظمى بنسبة 50٪. و عقدت القمة التالية في “ريكيافيك” بأيسلندا في أكتوبر 1986 و جاء السوفييت مستعدين جيدًا لكنهم طالبوا بالاتفاق على جميع نقاطهم و انهارت المناقشات حول مبادرة الدفاع الاستراتيجي ( نظام أمريكي مقترح لاعتراض الصواريخ الباليستية المهاجمة) و التي لم يكن الأمريكيين مستعدين للتخلي عنها و كانت القمة الثالثة التي عقدت في “واشنطن” العاصمة في ديسمبر 1987 تاريخية و التى أسفرت عن اتفاقية لإزالة فئة كاملة من الأسلحة النووية و هى الصواريخ الأرضية المتوسطة و القصيرة المدى و كانت معاهدة القوات النووية متوسطة المدى (INF) التي صاغها “ريجان و جورباتشوف” في قمتهما الأخيرة في “موسكو” في مايو و يونيو عام 1988 و مع ذلك كانت لا تزال هناك خلافات خطيرة خاصة حول التحقق من تنفيذ المعاهدات .

و تعلقت إحدى الاتفاقات التي تم التوصل إليها في قمة “جنيف” بانسحاب القوات السوفيتية من “أفغانستان” و التى غادر منها بالفعل آخر جندي في فبراير 1989 حيث كان “بريجنيف” قد أخطأ في التورط فيها و دفع الاتحاد السوفيتي ثمنًا باهظًا بالجنود (حوالي 14000) و العتاد و العداء الأجنبي و بعد رحيل ” ريجان ” كانت العلاقات بين “جورباتشوف” و خليفته “جورج بوش” جيدة و كانت هناك عدة قمم أسفرت عن اتفاقيتين تاريخيتين و هم معاهدة القوات المسلحة التقليدية في “أوروبا” و الموقعة في نوفمبر 1990 و معاهدة ستارت الموقعة في يوليو 1991 لكن معارضة هيئة الأركان العامة السوفيتية قوضت معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا و كان حل الاتحاد السوفيتي في أغسطس 1991 سببا فى ايقاف التقدم في معاهدة ستارت و أدت العلاقة الجديدة بين القوى العظمى إلى تصويت السوفييت على عمل عسكري ضد العراق في الأمم المتحدة رغم أن ذلك القرار كان مؤلماً لموسكو لأن العراق كان حليفاً لها .

و كان “جورباتشوف” ناجحًا في كل مكان ذهب إليه في أوروبا و بشكل خاص في “ألمانيا الغربية” حيث استقبل بترحيبا حارا في عام 1989 و في أوروبا الشرقية كانت الأحداث صاخبة عام 1989 لأنه لم يسمح بتدخل الجيش لإبقاء الأنظمة الشيوعية في السلطة و قام بترويج “البيريسترويكا” في المنطقة معتقدًا أنها ستفيد الاشتراكية و عمل على تقويض “إريك هونيكر” في “ألمانيا الشرقية” و هو ما سرع في انهيار ذلك البلد و كان يعارض توحيد “ألمانيا” لكنه اضطر في النهاية إلى قبولها كما كانت زيارته للصين في عام 1989 بمثابة فشل ذريع و أزعج القيادة الصينية بشدة بعد أن انجذب العديد من الصينيين إلى “البيريسترويكا” لكن القيادة القديمة قمعت بقسوة أولئك الذين يدعون إلى الإصلاح السياسي .

و رغم أنه كان أحد أهداف السياسة الخارجية السوفيتية هو تعزيز الاشتراكية في جميع أنحاء العالم الا أنه بحلول عام 1990 كان من الواضح تمامًا أن هذه المهمة قد فشلت حيث كان الحلفاء الوحيدين للاتحاد السوفييتي هم دول العالم الثالث مثل “أنجولا و إثيوبيا و كوبا” و هى دول فرضت على السوفييت التزامات تتطلب المزيد و المزيد من المساعدة للبقاء واقفين على قدميهم .

محاولة الانقلاب

طوال ربيع و صيف عام 1991 و نتيجة سياسات ” جورباتشوف ” انزعج الجيش و الكي جي بي و الشيوعيين المحافظين حيث كانوا يريدون قيادة مركزية قوية من أجل الحفاظ على الاتحاد السوفيتي الشيوعي و فى المقابل لم يكن لدى “جورباتشوف” ما يخشاه من الحزب الشيوعي بعد أن قلل بشكل حاد من سلطة المكتب السياسي في مؤتمر الحزب الثامن والعشرين في يونيو 1990 و لكن كان عليه أن يقر بظهور حزب شيوعي روسي حيث تم تنظيم انقلاب من قبل المخابرات السوفيتية و تم اختيار توقيته لمنع توقيع معاهدة الاتحاد في 20 أغسطس التي من شأنها تعزيز الجمهوريات و إضعاف المركز.

ففى 18 من أغسطس عام 1991 زار وفد “جورباتشوف” في منزله الصيفي في شبه جزيرة القرم و طالبه بالاستقالة و استبدال نائب الرئيس و عندما رفض تم احتجازه بينما أعلن قادة الانقلاب الذين اتصلوا باللجنة الاستثنائية و بتوجيه من رئيس الكي جي بي “فلاديمير كريوتشكوف” أن “جورباتشوف” اضطر إلى الاستقالة لأسباب صحية و بينما كانت اللجنة تحاول السيطرة على البلاد وصل “يلتسين” إلى مبنى البرلمان الروسي ومن هناك أعلن عن وجود محاولة انقلاب لسحق “روسيا” و دعا إلى عودة “جورباتشوف” و ناشد الدعم الشعبي و أدى الافتقار إلى الحسم من جانب قادة الانقلاب إلى المزيد و المزيد من الدعم للرئيس الروسي حتى أن بعض الجنود و وحدات الدبابات تحولوا للدفاع عن مبنى البرلمان و انحاز بعض كبار الضباط العسكريين إلى “يلتسين” و كان هناك ثلاث قتلى فقط في “موسكو” قبل انهيار الانقلاب في 21 أغسطس .

و رأى بعض المراقبين ان ذلك الإنقلاب قد حدث نتيجة أسباب عديدة منها شعور الكثيرين بخيبة أمل من مسار “البيريسترويكا” و كان الجيش محبطًا بشأن الانسحاب من أوروبا الشرقية و انخفاض الإنفاق الدفاعي و فقدان المكانة في الداخل و كان من الطبيعى ان يفشل ذلك الإنقلاب لأنه تم التخطيط له و تنفيذه بشكل سيئ بسبب الفشل في تحديد و نشر القوات الموالية كما أن القوات التي كانت غالبيتها من الروس أُمرت بالتحرك ضد الروس هذه المرة و ليست ضد اى جنسية اخرى كما حدث فى السابق كما كان الضعف الأساسي للمخططين هو عدم قدرتهم على فهم التحول السياسي و الاجتماعي الجذري الذي حدث في الاتحاد السوفيتي منذ عام 1985 و لم يعد من الممكن ببساطة الإعلان عن تقاعد “جورباتشوف” لأسباب “صحية” حيث انتهز “يلتسين” و الديمقراطيين الفرصة التي أتاحها المتآمرين غير الأكفاء لتنظيم مقاومة فعالة للغاية في “موسكو” اضافة الى حدوث انقسامات كبيرة بين كبار ضباط الجيش و KGB و نددت دول العالم بالانقلاب و حذروا من قطع كل المساعدات.

و رغم فشل الإنقلاب الا انه دمر “جورباتشوف” سياسياً و سارعت الجمهوريات إلى التحرر من سيطرة “موسكو” قبل أن ينجح انقلاب آخر و نجحت جمهوريات البلطيق الثلاث في الانفصال عن الاتحاد كما فعلت العديد من الجمهوريات الأخرى المثل كأوكرانيا التى كانت فى المرتبة الثانية سياسياً و اقتصادياً بعد “روسيا ” و صوتت لصالح الاستقلال في 1 ديسمبر عام 1991 و أعلنت “روسيا و أوكرانيا و بيلاروسيا” في 8 من ديسمبر عام 1991 في “مينسك” أن الاتحاد السوفيتي لم يعد موجودًا و أسس تجمعًا فضفاضًا يعرف باسم الكومنولث من الدول المستقلة و في 21 من ديسمبر وقعت 11 دولة فى “كازاخستان” بروتوكولًا رسميًا لإنشاء رابطة الدول المستقلة و الذى رفضته بعض من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق مثل إستونيا و لاتفيا و ليتوانيا و جورجيا و استقال “جورباتشوف” من رئاسة الاتحاد السوفيتي في 25 ديسمبر و توقفت جميع المؤسسات السوفيتية عن العمل في نهاية عام 1991 و كانت “روسيا” هي المستفيد الرئيسي و شغلت مقعد الاتحاد السوفيتي في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة و أصبحت جميع السفارات السوفيتية سفارات روسية و تم وضع القوات المسلحة السوفيتية تحت قيادة رابطة الدول المستقلة و لكن كانت مسألة وقت فقط قبل أن تشكل كل دولة قواتها المسلحة و أصبحت “روسيا” و “أوكرانيا” و “بيلاروسيا” و “كازاخستان” قوى نووية لكن جميعهم باستثناء روسيا أعلنوا أن هدفهم هو تدمير أسلحتهم النووية .

و بذلك تكون التجربة السوفيتية التي بدأت عام 1917 قد انتهت بالفشل و لم تتحقق أبدًا الأهداف الأخلاقية السامية التي حددتها لنفسها و في الواقع تم ارتكاب جرائم لا حصر لها في هذه المحاولة و أدرك “ستالين” أنه لا يمكن الاحتفاظ بالاتحاد السوفيتي إلا من خلال يد مركزية قوية مستعدة لاستخدام الإكراه و مع بدء محاولات الدمقرطة في عهد “خروتشوف” عمل ذلك على تفكك بطيء للإمبراطورية و قام “جورباتشوف” فقط بتسريع عملية التفكك من خلال تعزيز “الجلاسنوست” و أكد أن النظام الشيوعي لا يمكن أن يصبح ديمقراطيا و عندما تنتصر الديمقراطية تغادر الشيوعية المسرح.

شارك الموضوع

عمرو عادل

فى الحياة الواقعيه مهندس ميكانيكا قوى اما فى الحياه الافتراضيه فباحث و كاتب و مدير الموقع دا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *